المسؤولية عن هجمات باريس

16 يناير 2015

مسيرة في باريس على خلفية الهجمات الإرهابية (11يناير/2015/Getty)

+ الخط -
الهجمات التي وقعت في باريس مدانة ومرفوضة أخلاقيا، وهي كذلك غير مفيدة للإسلام والمسلمين، فجسد هذه الأمة مهترئ وأوضاعها مهلهلة، وهي ليست مؤهلة، ولا مستعدة، لدخول صراع مفتوح جديد مع الغرب.
أردت بهذه الافتتاحية الطللية أن أبدأ "باللازمة" التي أضحت مفروضة علينا، عرباً ومسلمين، لكي نثبت أننا "بشر متحضرون" نرفض العنف، لعل وعسى أن تكون كافية لتحييد مسألة الموقف الشخصي مما جرى، وتمكننا من الدخول إلى النقاش الحقيقي في المسألة، على الرغم من كل المحظورات التي تثار في وجه نقاش حر كهذا.
هجمات باريس، والتي نفذتها مجموعة من الشباب المسلم الفرنسي، ليست الأولى، ولن تكون، من أسف، الأخيرة. فقبلها ضرب العنف الذي مارسه مسلمون عواصم ومدناً غربية أخرى، وما زالت الأجهزة الأمنية والاستخباراتية الغربية تتحدث عن مؤامرات أخرى تنتظر التنفيذ.
التفسير الغربي لمثل تلك الهجمات قاصر، إن لم يكن مضللاً. فالمسألة لا تتعلق بالتهميش، فحسب، الذي يشعر به مسلمون كثيرون في الغرب، وخصوصا في دولة كفرنسا، ولا هي محصورة بتأثر الشباب المسلم الغربي بالفكر المتطرف عبر الإنترنت. كما أن مزاعم تيارات الإسلاموفوبيا، في الدول الغربية، أن المشكلة في الإسلام نفسه، ديناً يُشَرِّع ويحض على قتل غير المسلمين، كلام تافه لا يستحق التفاتة جدية إليه. الكل يتحدث عن أسباب الغضب بين المسلمين، وتحديداً الشباب منهم، ولكنّ قليلين يجرؤون على طرق الأسباب الحقيقية، فمثل هذا المنهج قد يكلف صاحبه كثيراً.

من يريد، حقاً، أن يفهم أسباب الغضب المستحكم بين فئات من المسلمين، فليس عليه أن ينظر أبعد من باريس نفسها، والمظاهرة الحاشدة التي شهدتها يوم الأحد الماضي للتنديد بالهجمات. فإذا كان من المفهوم أن يخرج الفرنسيون إلى الشوارع للتنديد بتلك الهجمات، فإنه من غير المفهوم أن تتحول تلك المظاهرة إلى حشد دولي، يحضره زعماء ورسميون من كل مكان. إنه النفاق بعينه، وهذا ما يزيد من غضب أولئك الشباب من المسلمين، الذين لا يرون إلا العنف طريقاً للتعبير عن غضبهم.
هل يعقل أن يهتز العالم للهجمات، المدانة مرة أخرى، والتي أودت بحياة ستة عشر فرنسياً، ولا يتحرك العالم نفسه لعشرات الآلاف الذي يقتلون في سورية والعراق وفلسطين وأفغانستان وبورما؟ ما هي الرسالة التي يوصلها هؤلاء إلى الشباب الذي لا يجد غير الاحتجاج العنفي لينفس عن غضبه؟ أضف إلى ذلك أن هذا الغرب الذي يسكب دموع التماسيح على المدنية والحضارة والإنسانية، هو نفسه من سفك، ولا يزال، دماء عشرات الآلاف من البشر، من دون وجه حق. ويكفي أن نذكّر، هنا، بحصار العراق، أكثر من عقد، وتسبب في مقتل أكثر من مليون إنسان بريء. كما يكفينا أن نذكّر بآلاف الضحايا من المدنيين الأبرياء الذين يسقطون، نتيجة "أخطاء" هجمات الطائرات من دون طيار في أفغانستان وباكستان واليمن.
يطالب الغرب المسلمين بإدانة الإرهاب الذي وقع في فرنسا، ويريد منهم أن يتحمّلوا مسؤوليته، وكأنهم أيدوا ما جرى، أو تآمروا فيه. حسناً، فعل المسلمون ذلك ودانوا الهجمات، كما دانوا غيرها كثيراً من قبل. ولكن، هل يعقل أن يطالب المسلمون كذلك بقبول إهانة نبيهم، محمد عليه الصلاة والسلام، من صحف صفراء تافهة، بذريعة حرية التعبير؟
حينما تكون حرية التعبير في الغرب انتقائية، فإنها، حينئذ، تفقد قيمتها. أليس في فرنسا نفسها قانون اسمه "غيسو"، يجرّم إنكار جرائم الإبادة ضد الإنسانية، وخصوصا الهولوكوست؟ لقد طُبق هذا القانون عشرات المرات في فرنسا، ودين بسببه أكاديميون فرنسيون كثيرون لمجرد أنهم طرحوا تساؤلات حول حقيقة ما جرى لليهود في الهولوكوست في ألمانيا النازية. فكيف يكون شتم الرسول حرية تعبير، وإصدار دراسة أكاديمية عن الهولوكوست إساءة ومحاولة لإعادة كتابة التاريخ؟ الأعجب، أن فرنسا، والتي قتلت أكثر من مليون ونصف مليون جزائري خلال احتلالها بلدهم (1830 - 1962)، وارتكبت عشرات جرائم الإبادة الموثقة من جنودها، ما زالت، إلى اليوم، ترفض الاعتراف بتلك الجرائم، دع عنك الاعتذار عنها.
مرة أخرى، هذه ليست محاولة لتبرير الهجمات، ولكن لا فرنسا، ولا الغرب، يمكنه أن يمارس ازدواجية المعايير بطريقة فجة وفظة، ثمّ يطالب المسلمين بأن يكبحوا جماح الغاضبين بين صفوفهم، وهم أصلا لا يسمعون لأحد. وهذا يقودني إلى نقطة أخرى.
فعندما يرى المواطن العربي المقموع بعضاً من طغاته الذين يسفكون دماءه، ليل نهار، يحجون إلى باريس، للاحتجاج على العنف والتطرف، فكيف عساه يفكّر؟ ترى كيف نظر الشعب المصري إلى مشاركة وزير خارجية نظام سفك دماء آلاف ٍ منهم في ميادين مصر وشوارعها؟ أيضا، ماذا نتوقع من المواطن الفلسطيني الغزّي الذي يقبع تحت حصار وحشي منذ ثماني سنوات، وتعرض لثلاث حروب صهيونية متتالية، ويموت أبناؤه اليوم من البرد؟.. ماذا نتوقع منه وهو يرى رئيس سلطته يسير في شوارع باريس مواسياً، وهو الذي لم يزر غزة ولو مرة واحدة، منذ عام 2007، لكي يواسي أبناء شعبه بمصائبهم الجلل؟
نعم، نرفض جريمة باريس، ليس لأننا مسؤولون عنها، ولا لأنه ينبغي أن نشعر بعقدة الذنب بسببها، وإنما لأنها جريمة. ولكن، على من يزعم موقفاَ أخلاقياً ساميا، أن يدين كل جريمة ترتكب ضد إنسان، كائناً ما كان دينه أو لونه أو عرقه. أما عندما تصبح الأخلاقية انتقائية، فعندها لا تتوقع أن يكون الرد أخلاقياً. هذا منطق الأشياء، لا مبتغانا، ولا حتى مصلحتنا.
في الولايات المتحدة، لا يكاد يمر شهر من دون أن يرتكب جندي أميركي، أو مواطن عادي، أو تلميذ مدرسة.. إلخ، مذابح بحق آخرين. ودائماً، عندما تقع جريمة من ذلك النوع، يضج الإعلام الأميركي بخبراء نفس واجتماع لتحليل شخصية مرتكب الجرم. حينها، تسمع عن الأمراض العقلية والنفسية والكآبة والضغط المجتمعي التي قد تكون أوصلت شخصاً ما إلى ارتكاب الجرم. أما حين يكون المنفذ مسلماً، لن تسمع أبداً من خبراء اجتماع ونفسانيين، بل يكون كل المتحدثين من "خبراء الإرهاب". إنها ليست فقط ازدواجية معايير، بل إنها أيضا، وصفة لمزيد من العنف والعنف المضاد.
وأخيرا، ثمة مشهد لافت من مظاهرة باريس، قد يعيننا على استيعاب منطق العنف الذي يحرك بعضاً بيننا. فمشاركة رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، تبرز جانباً كبيراً من معضلتنا عرباً ومسلمين. فنتنياهو، مجرم الحرب، لم يذهب إلى فرنسا "متضامنا" فحسب، بل ذهب زعيم دولة تمثل اليهود، وليتعهد لهم بالحماية التي يحتاجونها. قارن ذلك بزعمائنا الذين لا نطمع منهم بحماية، وكل ما نرجوه ألا نقتل بأيديهم. ما أريده من ذلك أن إفشال الثورات العربية أبقى مسألتي المشروعية والتمثيل للإنسان العربي خاليتين. وبالتالي، فإن كثيراً من الشباب الغاضب لا يجد في غير التنظيمات العنفية ممثلاً لشعوره بالمرارة والإهانة والرغبة في الانتقام. وفي هذه النقطة الأخيرة، الغرب نفسه شريك في هذه الجريمة، وذلك بدعمه تلك الأنظمة على حساب شعوبها. وفي المحصلة، سنبقى عالقين في دائرة عنف مغلقة.