27 سبتمبر 2018
المرض السوري
أتحدث عن إشكالية العقل الذي حكم المعارضة وقطاعاً كبيراً من النخب السورية، وليس عن الشعب. المرض المستحكم منذ بدء الثورة، ولا شك الذي كان نتاج تكوين طويل لم يؤسس لوعي حقيقي، بل أبقى الشكلية المفرطة متحكمةً. والمشكل أن وسائل التواصل الاجتماعي باتت تشكّل فضيحة في هذا المجال. أول الظواهر التي عبّرت الحالة المرضية هذه تمثّل في هيمنة "عقل قطعي"، يؤسس لفرض وجود "معسكرين" (أو فسطاطين حسب التعبير الأثير للسلفية) فقط، أي النظام ونحن. فقط النظام ونحن الذين نعرّف أنفسنا بأننا "الثورة" (على الرغم من أن كثيرين ممن يطرحون ذلك يعيشون بعيداً)، ولهذا على كل شيء، كل شخص، كل فاعلية، أن يصطف، أو تكون، في أحد هذين "الفسطاطين"، هكذا حتماً، وبالضرورة القطعية (أو القطيعية). وبالتالي يصبح كل من ليس معنا هو في الجهة المقابلة حتماً، فليس من متردّد أو محتار أو "غير فاهم"، فكل هؤلاء يجب رميهم في الجهة الأخرى، هم إذن مع النظام حتماً.
طاول هذا الأمر الموقف من الجيش ومن مؤسسات الدولة، وكل الهيئات والاتحادات. وربما يكون التمثيل الأخير لذلك حول ما جرى في مباريات كرة القدم. لكن يمكن ملاحظة خطورة هذا "المنطق" (وهو منطق أصولي اجتثاثي) حين تناول الموقف من الجيش منذ بدء الثورة، حيث بات جيش الأسد. وعلى الرغم من أن كل المؤشرات كانت توضّح أن الجنود يجرّون الى الصراع ضد الشعب رغماً عنهم (فيما عدا بعض القطاعات، منها الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري وبعض قطاعات الوحدات الخاصة)، فقد وُضع الجيش في صفّ العدو، وعملت أطرافٌ في المعارضة على تأسيس جيش بديل هو الجيش الحر، وأصبح المطروح على ضباط الجيش وعناصره الالتحاق بهذا الجيش أو وصمهم بأنهم "جيش الأسد"، والتعامل معهم عدواً.
لكن تبيّن فيما بعد أن هناك 200 ألف ضابط وجندي في حالة فرار، بالضبط لأنهم لا يريدون مواجهة الشعب، وأن ضباطاً كثيرين ممن انشقوا وُضعوا في "الحجز" في البلدان التي وصلوا إليها، ولم يسمح لهم الانخراط في الثورة. حيث بلغ عدد المنشقين بين ستين ألفاً وسبعين ألفاً. ويوضح ذلك كله أن الجيش لم يكن جيش الأسد، وأن الاحتقان من النظام كان يتغلغل فيه، وبالتالي كان يمكن التعامل بشكل يسمح بتحويل كل هؤلاء إلى قوة مع الثورة ببعض الشغل الصحيح. كان يمكن الحصول على السلاح منهم (وكان يحصل ذلك أحياناً) بدل مهاجمة معسكراتهم مثلاً، وكان يمكن عمل تمرّد في بعض القطاعات، أو استغلال وضعهم للقيام بعمليات اغتيال لرموز في النظام. لكن ما ظهر أن هناك من لا يرى، وينطلق من الثنائية المشار إليها، بالتالي فإن كل من لم ينشق هو مع النظام. كما كان هناك من لا يريد أي دور للمنشقين أصلاً، لأنه يريد أن يكون هو البديل (وهذه سياسة جماعة الإخوان المسلمين)، بالتالي عمل على تشويه الجيش.
المشكل هنا أن هذا "المنطق" يفترض أن الأمور يجب أن تجري "وحدها"، بعفوية، أي من دون مجهود نقوم به نحن، ويتمثل دورنا في إصدار الأحكام، ووصم كل من ليس معنا بأنه عدو. أي ممارسة دور المفرّج الذي "يصيح"، "يشتم"، ويتهم بلا كلل. بينما كانت إستراتيجية النظام، منذ البدء، تتمثل في العمل على أن تبقى الكتلة المتردّدة من الشعب على تردّدها، حيث تشكّل الخطاب الإعلامي من كل العناصر التي تدفع إلى تكريس التردّد، وبذل الإعلام مجهوداً كبيراً في إيصال ذلك. ربما نجح، لكن إعلام المعارضة و"أصدقاء الشعب السوري" كانا العون الأكبر له.
إذن، المرض السوري يتمثل في "ممارسة القطيعية" في الخطاب، والعجز عن بذل أي جهد لإقناع المتردّد أو حتى المختلف، فهو "بذاته" يجب أن يكون هنا أو هناك. ونحن لا دور لنا في التمييز بين "العقائدي" وذوي المصالح، وبين المتردّد أو المتشكّك، أو غير المستوعب ما يجري.
طاول هذا الأمر الموقف من الجيش ومن مؤسسات الدولة، وكل الهيئات والاتحادات. وربما يكون التمثيل الأخير لذلك حول ما جرى في مباريات كرة القدم. لكن يمكن ملاحظة خطورة هذا "المنطق" (وهو منطق أصولي اجتثاثي) حين تناول الموقف من الجيش منذ بدء الثورة، حيث بات جيش الأسد. وعلى الرغم من أن كل المؤشرات كانت توضّح أن الجنود يجرّون الى الصراع ضد الشعب رغماً عنهم (فيما عدا بعض القطاعات، منها الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري وبعض قطاعات الوحدات الخاصة)، فقد وُضع الجيش في صفّ العدو، وعملت أطرافٌ في المعارضة على تأسيس جيش بديل هو الجيش الحر، وأصبح المطروح على ضباط الجيش وعناصره الالتحاق بهذا الجيش أو وصمهم بأنهم "جيش الأسد"، والتعامل معهم عدواً.
لكن تبيّن فيما بعد أن هناك 200 ألف ضابط وجندي في حالة فرار، بالضبط لأنهم لا يريدون مواجهة الشعب، وأن ضباطاً كثيرين ممن انشقوا وُضعوا في "الحجز" في البلدان التي وصلوا إليها، ولم يسمح لهم الانخراط في الثورة. حيث بلغ عدد المنشقين بين ستين ألفاً وسبعين ألفاً. ويوضح ذلك كله أن الجيش لم يكن جيش الأسد، وأن الاحتقان من النظام كان يتغلغل فيه، وبالتالي كان يمكن التعامل بشكل يسمح بتحويل كل هؤلاء إلى قوة مع الثورة ببعض الشغل الصحيح. كان يمكن الحصول على السلاح منهم (وكان يحصل ذلك أحياناً) بدل مهاجمة معسكراتهم مثلاً، وكان يمكن عمل تمرّد في بعض القطاعات، أو استغلال وضعهم للقيام بعمليات اغتيال لرموز في النظام. لكن ما ظهر أن هناك من لا يرى، وينطلق من الثنائية المشار إليها، بالتالي فإن كل من لم ينشق هو مع النظام. كما كان هناك من لا يريد أي دور للمنشقين أصلاً، لأنه يريد أن يكون هو البديل (وهذه سياسة جماعة الإخوان المسلمين)، بالتالي عمل على تشويه الجيش.
المشكل هنا أن هذا "المنطق" يفترض أن الأمور يجب أن تجري "وحدها"، بعفوية، أي من دون مجهود نقوم به نحن، ويتمثل دورنا في إصدار الأحكام، ووصم كل من ليس معنا بأنه عدو. أي ممارسة دور المفرّج الذي "يصيح"، "يشتم"، ويتهم بلا كلل. بينما كانت إستراتيجية النظام، منذ البدء، تتمثل في العمل على أن تبقى الكتلة المتردّدة من الشعب على تردّدها، حيث تشكّل الخطاب الإعلامي من كل العناصر التي تدفع إلى تكريس التردّد، وبذل الإعلام مجهوداً كبيراً في إيصال ذلك. ربما نجح، لكن إعلام المعارضة و"أصدقاء الشعب السوري" كانا العون الأكبر له.
إذن، المرض السوري يتمثل في "ممارسة القطيعية" في الخطاب، والعجز عن بذل أي جهد لإقناع المتردّد أو حتى المختلف، فهو "بذاته" يجب أن يكون هنا أو هناك. ونحن لا دور لنا في التمييز بين "العقائدي" وذوي المصالح، وبين المتردّد أو المتشكّك، أو غير المستوعب ما يجري.