المحرّكات الإقليمية لساسة العراق

16 مارس 2017
+ الخط -
على الرغم من مرور أكثر من 13 عاماً على ممارسة القائمين على العملية السياسية في العراق والمعارضين لهم في الداخل والخارج مواقف وأزمات سياسية وأمنية كبرى، إلا أن ما تفرزه الأفعال وردودها يثبت أن جلهم لم يتعلموا من مدرسة الحكم في هذا البلد وممارساته التشريعية والتنفيذية، وطبيعة العلاقات المحلية والدولية، بل حتى أنهم لم يحسنوا لعبة الحاكم والمعارض، بالشكل الذي يفرز معارضة حقيقية، مسلحة كانت أو سلمية، داخلية أم خارجية.
ولعل من أهم إفرازات ما بعد احتلال العراق في عام 2003 من الولايات المتحدة، ثم تغاضي واشنطن عن موضوع الانسياح الإيراني في هذا البلد، هو صفة التحكّم الإقليمي بسياسات الحكم، وأساليب إدارة الملفات الأمنية والاقتصادية؛ حتى بات العراق مقسما من حيث النفوذ إلى مناطق شتى، كل توجهه دولة من دول الإقليم، وهي متقاطعة في مجملها، لكنها اتخذت خلال أكثر من عقد مواقف تكتيكية أخرى، لم تسمح خلالها للقوى الوطنية العراقية بحسم المسألة، وإنهاء الحكم الذي استشرى فيه الفساد والدمار واستهانة دماء العراقيين وأعراضهم.
كانت السمة الغالبة بالطبع من حصة إيران، حيث تأتمر معظم القوى السياسية (الشيعية) ومليشياتها بقرارات المرشد الإيراني الأعلى، ثم بسلم طويل من رجالات المخابرات والحرس الثوري ممثلا بفيلق القدس؛ ولا أعتقد أن هناك أختلافا بين أي عراقيين حول هذا الأمر، بل والتسليم به أمراً واقعاً، وعلى الصعد كافة، وقد كانت فترة حكم نوري المالكي الأكثر وضوحا في جعل العراق ساحة إيرانية للانتقام أولا من معارضي سياسة ولاية الفقيه، وكل القوى الوطنية العراقية على اختلاف انتماءاتها، ثم تحويل كل الاقتصاد العراقي لصالح دعم الاقتصاد الإيراني وتطويره، بما في ذلك الاستثمارات النفطية الإيرانية على حقول النفط العراقية، ومن دون مقابل يذكر، بحجة دعم مشروع "تصدير الثورة الإيرانية".

تدخلت إيران، وما زالت، بكل مفاصل الحكم في العراق منذ عام 2005، ولا يجرؤ أي 
مسؤول سياسي أو أمني عراقي على مواجهة هذا الأمر، على الرغم من معرفة الجميع به، لا بل أصبح السفير الإيراني في العراق بمثابة (المندوب السامي) إبان فترة الاحتلال البريطاني للعراق (1914-1958)، حيث لا يجري العمل بأي قرار أو قانون في العراق، إلا بعد موافقة هذا السفير، وتأكيده على عدم المساس بمصالح طهران وفعالياتها في هذا البلد.
من جهة أخرى، كانت هناك محاولات خجولة، وخائفة، من دول إقليمية أخرى في التدخل بالشأن العراقي، حفاظا على مصالح أمنها القومي، ومن أبرز هذه الدول تركيا والسعودية والإمارات وقطر والأردن، لكن معظم هذه المحاولات كانت ترصدها الولايات المتحدة من جهة، وطهران من جهة أخرى، والأخيرة هي الأهم، حيث غالبا ما تهدد بشكل علني أية دولة، وخصوصا دول الخليج، من التدخل في الشأن العراقي، وقد شهدت أكثر من حالة من هذه الحالات، كان من أهم نتائجها انسحاب هذه الدولة أو تلك من محاولتها، وبالتالي ترك العناصر التي تعاونت معها فترة أخرى، أو إيجاد عناصر أخرى جديدة، يمكن التعاون معها بعيدا عن المراقبة الإيرانية.
ومع وصول الإدارة الأميركية الجديدة، بات واضحا أن واحدا من أهداف هذه الإدارة الرئيسة تحقيق الاستقرار الأمني والسياسي والاقتصادي في العراق وسيلةً لتحقيق أعلى قدر من الاستثمار في هذا البلد، فيما بدا للجميع، وكما أعلن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، أن هذا الأمر لن يتم من دون تقليم أظافر إيران في العراق بشكل رئيس، وفي المنطقة بشكل عام، وهو أمر دخل حيز التنفيذ، بدءا من إصرار واشنطن على القضاء على تنظيم داعش الإرهابي في العراق وسورية، ومن ثم (التوصية) لبعض الدول الإقليمية، وحتى الأوروبية، بالانفتاح على بغداد، وفتح مجالات تعاون ودعم تسهّل لها من خلالها الانسحاب تدريجيا من القبضة الإيرانية.
المملكة العربية السعودية وتركيا كانتا من أبرز الدول التي تحركت باتجاه التوافق مع النهج الأميركي الجديد، فأرسلت الأولى وزير خارجيتها، عادل الجبير، ليزور بغداد، في 25 من فبراير/ شباط الماضي، زيارة وصفت بـأنها "تاريخية"، وقلّلت الثانية من حدة التوتر بينها وبين حكومة حيدر العبادي، وحولته إلى تعاون واضح في موضوع محاربة "داعش"، وممارسة صمت إعلامي حول ممارسات للحكومة العراقية والحشد الشعبي في مناطق عراقية عدة، مع فتح قنوات استثمارية كبرى داخل العراق بمليارات الدولارات. ويراد لهذه التحركات، بطبيعة الحال، أن تفضي إلى إقناع حكومتي بغداد وطهران بضرورة إعادة قراءة الصورة، في ظل إدارة ترامب الجديدة، ونهاية خطر "داعش" من أن الصراع الإقليمي بين إيران والسعودية من جهة وتركيا من جهة أخرى على أرض العراق، والذي يمسّ بدرجة كبيرة جدا المصالح الجيوسياسية للدول الأربع، يجب أن يتحول إلى بيئة مستقرة وآمنة، يكون فيها العراق سوقا كبرى لمصالح الجميع، وفق مبادئ الأمن والسلم المجتمعي، أو يكون عكس ذلك صدام سيتضرّر منه الجميع، وخصوصا إيران حاضرا ومستقبلا.
على ذلك، بات اللعب الإقليمي مكشوفا للجميع، وأصبح ممثلو الدول الإقليمية المجاورة للعراق،
وبعض الدول العظمى كالولايات المتحدة وبريطانيا، معروفين وبشكل مباشر، فالغالبية السياسية (الشيعية)، كما ذكرنا، هم من أتباع إيران، ويراهنون على قدرتها على مواجهة التهديدات الأميركية، وكل السياسيين (السنّة) الموجودين ضمن العملية السياسية تقريبا هم إما ضمن الأجندة التركية أو السعودية أو الإماراتية.. وغيرها؛ ولعل المؤتمر الذي أقيم في أنقرة، في الثامن من مارس/ آذار الجاري، للقوى (السنيّة) العراقية، وشارك فيه نواب، وساسة، ووزراء سابقون وحاليون، وسفراء، ورؤساء أحزاب وتجمعات وشيوخ قبائل، وبعض المطلوبين للقضاء العراقي بتهمة الإرهاب، خير دليل على ذلك؛ فالمصادر من داخل هذا المؤتمر ذكرت أنه تم برعاية تركية، وبدعم من دول خليجية معروفة، وبمباركة دولية.
الغريب في عراق ما بعد 2003 أن معظم من أراد التغيير فيه، وإسقاط النهج الفاسد في حكمه، كان لزاما عليه أن يلجأ إلى محرّك إقليمي، أو عبر واشنطن مباشرة. وعلى الرغم من أن الذين حققوا الهيمنة، حتى هذه اللحظة، هم أتباع طهران، إلا أن اللافت جدا أن من حضر مؤتمر أنقرة، أو المؤتمرات التي سبقته، هم جميعهم من أرباب العملية السياسية منذ انطلاقها عام 2005، وهم أنفسهم الذين تعاملوا مع كل قضايا العراق المحلية أو الدولية تحت مظلة الترهيب أو الترغيب الإيراني. يبقى القول إن ذهاب بعض القوى التي يطلق عليها (وطنية)، طوعا أو كرها، إلى مؤتمرات ذات محرّكات إقليمية، تحتاج إلى وقفة تأملية طويلة، وهو ما يجب التحذير منه.
F51601CD-AABE-44C5-B957-606753EEC195
فارس الخطاب

كاتب عراقي مقيم في لندن