المثقف... وتحولات الربيع العربي

28 يناير 2016
الخطأ القاتل بالنسبة للمثقف هو قبوله الإقصاء والتهميش(فرانس برس)
+ الخط -
تعتبر الثقافة العربية بموروثها التاريخي الضخم جزءاً لا يتجزأ من مفهوم الثقافة العالمية، فهي بمعناها الشمولي تلك القيم والنُّظُم الاجتماعية والسياسية والعلمية والفنية التي ورَّثها السلف للخلف، وهي نتاج فكر إنساني نابع من مجموعة النشاطات والتفاعلات البينية، وهي انعكاس لحالة المجتمع. وترتبط تلك الثقافة ارتباطاً وثيقاً بمراحل نمو هذا المجتمع. يؤكد ذلك ابن خلدون، 1332_1406م: إن مرحلة الحضارة هي أعلى مراحل تطور الدولة وثقافتها. فالثقافة في نظر ابن خلدون هي الدراية الجيدة بكل ما يتعلق بمجال من المجالات فكراً وممارسة.


وقد مرت الثقافة العربية عبر تطورها ورقيّها في مدارج الحضارة الإنسانية بمراحل متعددة، فتارة ترقى إلى مستويات عالية جداً، وتارة تنحدر إلى الحضيض، حتى يكاد يخفى سطوع ضوء معارفها، حيث تعتبر الحضارة العربية الإسلامية بعد اكتمال صورتها وإثبات وجودها أنها قد أفرزت نوعاً مميزاً جداً من ثقافة عالية الجودة فرضت نفسها على كل ثقافات العالم المتمدن في ذلك الوقت، فقد أعطت حق البحث العلمي وحرية التفكير - وهما أهم أدوات الثقافة - لتنتج ذلك التطور والازدهار في كل المجالات.

أما في وقتنا الحاضر، فقد اختلف مفهوم الثقافة اختلافاً جذرياً حيث أصبح مرتبطاً ارتباطاً كاملاً بالنظام السياسي، حيث إن أزمة الثقافة العربية ومشكلتها الأساسية تكمن في تقزيم دورها ودور المثقف ليصبح تابعاً للنظام السياسي الحاكم.

وبمعرفة بسيطة بالجذور الطبيعية للأنظمة العربية، نجد أنه من البديهي أن تتصدى هذه الأنظمة للمثقف وتحاربه، لأنها ترى فيه منافساً وعدواً في مسألة استمرار هيمنتها. ولكن الخطأ القاتل بالنسبة للمثقف هو في قبوله للإقصاء والتهميش، الأمر الذي فرض عليه نوعاً من العزلة والشعور بخيبة الأمل من هذا الواقع المرير.

إن انعدام الديمقراطية في المجتمعات العربية حدد تحرك المثقف، وحجَّم مجال تحركه في فضاء ضيّق وهامش بسيط للحرية، ولم يُعطَ المثقف الدور الذي يستحقه كرجل طليعي مناضل، وكذلك لم تلعب الثقافة دورها الذي كان من شأنه أن يجعلها حرة مزدهرة ولم تحمل مشروعاً سياسياً منبثقاً عنها، بل انقادت مكرهة لتسير وراء خطط وبرامج أعدّت مسبقاً لخدمة الحزب الحاكم وتبنّي سياسته، ففقدت دورها وطابعها الثقافي وفقدت صلتها بالمجتمع وتحولت إلى تابع للسياسة وللقيادات الحزبية.

إن الدور الثقافي الذي كان يجب على المثقف العربي أن يلعبه قد سلب منه بشكل أو آخر وأصبح مرتبطاً بالنظام السياسي في هذا البلد أو ذاك، في حين كان ينبغي عليه أن ينخرط في استراتيجية شاملة للتخطيط العلمي من أجل فتح العقول والعقليات المعاقة وتحريرها والتركيزعلى الأولويات ذات الأهمية الكبرى، وهي:

أولاً: وقبل كل شيء، حق العيش بكرامة دونما ابتزاز من أي سلطة كانت، أي أنه لا يجب على المثقف أن يدفع ثمناً من حريته وكرامته لأنه خالف السلطة الحاكمة أياً كان شكلها.

ثانيا: ردم الصدع العميق الحاصل بين النظام السياسي وبين مكونات المجتمع بكافة أطيافه والخروج من ربقة التكليف الإلزامي الأعمى خلف هذا الحزب أو ذاك.

إن إفرازات الأنظمة العربية بعد التحرر من الاستعمار كانت ضد المثقفين العرب أنفسهم، أي أنها ناصبت العداء لشعوبها ومثقفيها وحاولت جاهدة خلق ثقافة تتماشى مع سياساتها ذات النظرة الدونية المرتبطة بمصالحها.

لقد حاولت هذه الأنظمة بما تملك من وسائل وإمكانيات هائلة إقصاء كل المثقفين الذين كانت لهم رؤيا مخالفة لتلك الأنظمة وأصبح المثقف العربي بين نارين، إما مسايرة تلك الأنظمة أو الهجرة ومواصلة العمل خارج أعين الرقابة الصارمة التي فرضتها تلك الأنظمة.

كما وضعت تلك الأنظمة المثقفين ضمن إطارين اعتبرا لعقود مضت حدوداً لا ينبغي للمثقف تجاوزها، الأول: فكرة المؤامرة، وهي شماعة تعلّق عليها هذه الأنظمة كل إخفاقاتها، والإطار الثاني: خلق أسطورة القائد المثقف المحيط بكل شيء درايةً ومعرفةً.

كل ذلك أدى إلى انقسام المجتمع العربي (الطبقة المثقفة) إلى قسمين، الأول مع الحاكم يتبنى سياسته ويدافع عنها بكل قوته، والقسم الآخر آثر النزوح خارج الوطن العربي حيث لا رقابة ولا قيود.

إن تلك الأنظمة الرجعية بفكرها، العلمانية بظاهرها، لم تعط الحرية الكاملة للمبدعين من أبناء أمتنا بل عمدت إلى بناء حواجز وعقبات أمام المثقفين وتجييش كل وسائل الإعلام المقروء والمسموع والمرئي في خدمتها وفي سبيل تعديد مناقب السلطة، كما ضخت الأموال الطائلة لذلك، كما عملت على إيجاد ظاهرة الثقافة الدولتية، بحجة إحياء الثقافة الشعبية، وبالتالي تخلت عن مشروع ثقافة قومية جامعة مستنيرة تمثل كافة التيارات الفكرية الثقافية العربية، وعملت على عسكرة المثقفين وتوجيه أقلامهم لخدمة وتبرير الأوامر والقرارات العليا ومحاربة كل تجديد أو تغيير إلا إذا كان موجها لخدمتها، والعمل على قلب الحقائق وخدع الجماهير بكل الوسائل خدمةً للسلطة المرتبطة بها لتحقيق مصالحها، لذلك لا غرابة أمام هذا الواقع المرير أن يختفي الخطاب الثقافي الحر ويتلاشى ويصبح المجتمع أمام وعود ثقافية جوفاء ليست إلا زبد بحر يذهب جفاءً.

إن عجز هذه الأنظمة عن تحريك عجلة التطور الشامل لمختلف جوانب المجتمع واقتصارها على تأمين المستوى الأدنى من الحياة المعيشية لشعوبها، واستبدال كل الجهود الموجهة لتنمية المجتمع إلى جهود لفرض سياساتها، انعكس سلبا على واقع الثقافة العربية وجعلها تدور في حلقة مفرغة.

فضاء ثقافي حر
إن التطور التكنولوجي الهائل في كل المجالات، وخصوصاً في مجال الإعلام وما وفرته تلك التقنية من سهولة وصول المعلومة بحداثتها إلى المتلقي في كل أرجاء الأرض، عبر وسائل الإعلام المختلفة، جعل العالم منفتحاً على فضاء ثقافي حر، ما جعل هذه الأنظمة تقف عاجزة تماماً عن حجب الصورة الحقيقية لواقعها المرير. وأظهرت هذه التحولات الكبيرة المفاهيم الفاسدة التي كانت سائدة والتي بقيت لعقود جاثمة على صدور أبناء الأمة العربية، كما أنها أظهرت سطوعاً لشمس الثقافة العربية المغيّبة عن الواقع الحقيقي لمجتمعنا العربي. وهنا وفي ظل تلك الظروف الجديدة، تبرز المسؤولية الحضارية والإنسانية للمثقف العربي الملتزم لمتابعة المسيرة الخالدة لثقافتنا العربية وله وحده قصب السبق في قيادة هذه الأمة وحمل شعلة النضال ضد كل أشكال الاستبداد، وصناعة الربيع الجديد الذي يسطع على كل الغيابات التي مزقت كيان الأمة ثقافياً واجتماعياً وحضارياً، وأن يكونوا هم صانعي المستقبل أو أقله أن تكون لهم أيادٍ واضحة في صناعة المستقبل، والذي ستكون فيه السلطة للثقافة والحضارة والشعوب قبل كل شيء.

(سورية)

المساهمون