المتوسط مقبرة مائية

26 ابريل 2015

قارب يحمل مهاجرين قرب شواطئ جزيرة لامبيدوزا (23فبراير/2015/أ.ف.ب)

+ الخط -

لم يكن في الأصل بحراً، لكنه نشأ في مجرى تحولات جيولوجية طويلة، فمزق صرة الأرض. هكذا يقول فيه علماء الجيولوجيا وبعض من أساطير بحر صغير، لكنه شكل مهد الحضارة الإنسانية، ووصل وفصل بين قارات ثلاث. كان المتوسط في الألفيات الثلاث الأخيرة مهداً للحضارة البشرية: تدفقات البشر والسلع والأفكار تجولت، فبنت مدناً ودولاً وحضارات، لكنه استوى، في العقود الأخيرة، أكبر مقبرة مائية.

انتهت القمة الأوروبية التي جمعت وزراء الخارجية والداخلية، وقد خصصت لمعالجة ظاهرة الهجرة السرية. وهي القمة التي ما كان لها أن تجتمع، لولا تلك الفواجع التي ذهب ضحيتها في أقل من ثلاثة أيام قرابة 1300 مهاجر، لقوا حتفهم في عرض البحر، ما تمخضت عنه كان مخيبا للآمال بكل المعاني، بل إنه وصمة ستظل تلاحق من اجتمع في بروكسل. خارج تلك البناية البلورية التي حجبت عنهم زرقة البحر، والسماء أيضاً، كان الطقس جنائزياً.

لا أحد من أولئك استمع إلى صراخهم وهم يستغيثون، على أمل أن تصل أصواتهم إلى منقذ قد ينزل من السماء، فتلك البواخر غير مجهزة بصناديق سوداء، تسجل آخر الأصوات. صدورهم وهي تصارع ماءً أجاجاً يتسلل رويداً رويداً إلى أجسامهم، ليكتم أنفاسهم، هي الصناديق التي تهوي إلى قاع لا يدرك. لا أحد يستطيع، مهما شاهد من أفلام وثائقية أو فنية صورت مثل هذه الوقائع، النظر إلى تلك الأحداق الهلعة، وهي تغوص في الماء، يحملها حب الحياة إلى الموت غرقاً. ستكون الحياة أحلى، حتى ولو كانت قراهم ومدنهم الفقيرة في تعاسة الجحيم.

اتسع خيال هؤلاء القادة على حلول مستوحاة من أفلام الرعب، المنتشرة بكثرة في أيامنا هذه، خصوصا الضربات الاستباقية، لعلهم يجهضوا على نيات السفر، وهي في المهد. الضربات العسكرية لشبكات التهجير ستكون أفضل الحلول، حسب اعتقادهم، إنهم يستنسخون تلك الوصفات التي جربوها من حروب مقاومة الإرهاب، سيقومون بذلك غير عابئين بسيادة الدول.

لا شك في أن شبكات التهجير قد ترعرعت ونمت، في السنوات الأخيرة، مستفيدة من انهيار منظومة الحدود في أكثر من بلد عربي، تونس وليبيا ومصر وسورية، وغيرها من الدول التي مر بها الربيع العربي، كما أن الحروب الأهلية التي مزقت دولاً إفريقية أخرى، على غرار مالي وجنوب السودان والكونغو والصومال وغيرها، دفعت بتدفقات الهجرة، بشكل غير مسبوق، أما تشدد الدول الأوروبية، في هذا السياق بالذات، فقد أحدث مصيدة كبيرة، لا يمكن أن ينجو منها الحالمون بالهجرة سوى باتباع وصفات المهربين. هذا المناخ منح لهؤلاء فرصة سانحة لتنمية استثماراتهم في هذه المآسي بالذات.

يعمد الاتحاد الأوروبي إلى إغفال الأسباب الحقيقية للهجرة السرية، وهي ثالوث الفقر والاستبداد والأمية، وما البطالة والحروب الأهلية والمجاعات سوى أعراض لتلك الأمراض. كان الاتحاد الأوروبي يدعم أنظمة الاستبداد في المغرب العربي، ويبتزها حتى تكون له شريكاً في مكافحة الهجرة غير القانونية، وهو يستعمل هذا اللفظ تماماً كما لو أنه يكافح الإرهاب والأوبئة، فالهجرة عدو فتاك، يحتاج إلى مكافحة، بل محاربة. كلنا نعلم أن بعض تلك الأنظمة تطوع، بشكل أو بآخر، للعب دور الشرطي، لكن بعضاً آخر بدوره ناور وابتز أيضاً. ومع رحيل هؤلاء وانهيار الحدود، تدفق عشرات آلاف الشبان، وكلنا يتذكر أن ما يقارب ثلاثين ألف شاب تونسي أدركوا تلك الشواطئ الايطالية في أقل من شهر. سيبحث الاتحاد الأوروبي عن شركاء جدد، حتى يفوض لهم بعض "المهام القذرة"، كاعتقال المهاجرين خارج أي غطاء قانوني، أو ترحيلهم، ولربما اعتراض قوافلهم البرية، وهم القادمون من أعماق الصحاري والأدغال، وقد يجتهد هؤلاء تحت الترغيب والترهيب في تنفيذ ما يطلب منهم، ولكن لن تكون تلك الأعمال مجدية على المدى المتوسط أو الطويل.

يتهرب الاتحاد الأوروبي من الإنصات إلى صوت العقل، وهو صوت كان قد صدح به الأمين العام الأسبق لمنظمة الأمم المتحدة، كوفي أنان، قبل أن يغادر منصبه، حين قدم تقريره الشهير حول حالة الاتحاد الأوروبي، وحاجة اقتصاده لملايين من المهاجرين سنوياً. ومع أن علينا أن نقر بشجاعة أننا نتحمل قسطاً من المسؤولية، أيضاً، حروبنا الأهلية التافهة والمضحكة أحياناً، الاستبداد الذي نستلذه ونستديمه والفساد الذي نتواطأ معه، حتى يبدد الثروات والعقل، كلها أسباب تدفع بأولئك الشباب إلى ركوب قوارب الموت تلك.

إذا لم تأت الثروات إلى البشر، فإنهم سيذهبون إليها طوعاً أو كرهاً. هذه حكمة قديمة على قادة الاتحاد الأوروبي أن يستحضروها، كلما تطارحوا قضية الهجرة. لن يهنأ الاتحاد الأوروبي بدرجة الصفر من الهجرة، لأنها درجة موهومة، فضلاً عن استحالة تحققها، حتى ولو زرعوا المتوسط شباكاً للبشر.

الحنين إلى زمن القلاع غير القابلة للاختراق ولى وانقضى، في زمن معولم، تهاجر فيه الصور والأصوات والأفكار، وسيكون ثمن شل حركة الناس قتلهم، على نحو ما جرى في الأيام الأخيرة.

التنمية والسلام وحرية التنقل قيم ينسبها بعضهم إلى منظومة القيم الكونية التي صاغها عقلهم، أي الأوروبيون، وما نطالب به تجسيد ذلك على "البحر"، وقد فشلوا في تجسيده على الأرض.

لا أحد أعلن الحداد، لأن القتلى، هذه المرة، دفنوا بلا أكفان ولا صلوات، ولا قبور لهم، ومع ذلك سيظل موتهم حياً.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.