المترجم الخائن

14 فبراير 2018
(بالقرب من منيسك، بيلاروسيا)
+ الخط -
لا يَخفى أن العلاقة بين الترجمة والأدب موغلة في التاريخ، وأن رواية "دون كيخوته دي لاماتشا" لثربانتيس -التي كان خوان غويتيسولو يَسِمها بكتاب الكُتُب، شأنها في ذلك شأن "ألف ليلة وليلة"، إضافةً إلى كون ساردها ادَّعى أنها مجرد ترجمة عن العربية إلى القشتالية- تتضمّن بعض قضايا الترجمة من جهة، وتُدرجُ المترجِمَ شخصية من بين شخصياتها العديدة من جهة أخرى.

معلوم أن نصوصاً أدبية عالمية وعربية مهمة ادّعى ساردوها أنها ترجمة عن لغة أخرى، وأن دورهم فيها لا يعدو الوساطة بين المؤلِّف الأصل وقارئيه في لغة أجنبية. ويعني هذا أنّ الترجمة تعقّد وشائج وثيقة مع الأدب، وتُسهم في الترويج له للانتقال به من المحلية أو القومية إلى الوطنية.

ويُحتمَل أن يذهب ذهْنُ كثيرين لدى قراءتهم العنوان أعلاه إلى رواية فاتنة لـ فواز حداد، تحمل الاسم ذاتَه، وتُعَدّ تصريفاً إبداعياً لما يُعرف بالترجمة التخييلية أو الترجمة السردية، التي يشتبك فيها النص الأدبي مع التجربة الترجمية بعوالمها وقضاياها وممارسيها، فتصير موضوعاً للكتابة الإبداعية.

ويُحتَمَلُ، أيضاً، أنْ يتصوَّر قُرّاء غير قليلين أن موضوع المقالة هو إثارة مسألة الخيانة في الترجمة، وهي القضية الأزلية التي لازمتها، والتي تُثار كلما جرى التطرِّق إلى هذا النشاط الإبداعي، على الأقل، منذ زمن الجاحظ الذي رأى "أن الترجمان لا يؤدي أبداً ما قال الحكيم، على خصائص معانيه، وحقائق مذهبه، ودقائق اختصاراته، وخفيّات حدوده، ولا يقدر أن يوفيها حقوقها، ويؤدّي الأمانة فيها"، أي أن الوفاء يكاد ينعدم في الترجمة، فتفادى بذكائه النقدي استعمال كلمة الخيانة بحمولتها الأخلاقية، لكن الإيطاليين كانوا صريحين في ما أُثِر عنهم بصددها، فقد اشتُهروا بعبارتهم "الترجمة خيانة Traduttore traditore"، التي فَهِم منها كثيرون أن التراجمة يتعمّدون خيانة ما يُترجمون من نصوص، مُتَناسِين أن الاختلاف بين اللغات أصلي، وأن سببه الفروق الدقيقة والظِّلال الرفيعة التي يُبنى عليها المعنى. ووقع ترسيخ أكبر للبعد الأخلاقي لمعنى الخيانة برواج عبارة "الجميلات الخائنات" في حق الترجمات، والتي أطلقها جِيلْ مِناجْ في القرن السابع عشر على ترجمات نيكولاس بِيرُو دَلْباكُورْ، وصولاً إلى القائلين باستحالة الترجمة اعتماداً على المؤاخذة نفسها.

ويبدو أن اتِّهام الترجمة بالخيانة يُرَدُّ إلى صدور أصحابه في نظرتهم إلى الاختلاف بين الأصل والفرع عن فهمهم الخاص "للتمثيل"، والذي انتقده جيل دولوز بحدة في الفن عموماً والكتابة تخصيصاً، مما يُسوِّغ عملياً استحضاره في حيز الترجمة؛ فإذا كان "التمثيل" يُعنى بالتقاط التشابهات والتركيز عليها، فإن فكر الاختلاف يولي الاهتمام كلَّه للاختلافات الصغيرة؛ أي للمتفلِّت، فتغدو "الكلمات غير المضبوطة هي أحسن الكلمات لتعيين شيء ما بطريقة مضبوطة".

هكذا تُظهر الترجمةُ الاختلاف، في الوقت الذي تُعلن عن نفسِها حركةً متميّزة، لا ترتهن إلى الرتابة والإعادة، بل تستوعبها تكراراً خلاقاً، تُصْهر فيه الاختلافات، ويُكرَّر فيها الأصل مرّات ومرات، بحيث تصير قراءتُه لانهائية، فتكون دفعاً بالنص إلى المستقبل وفتحاً لسُبل جديدة أمامه.

نعود إلى قضية الخيانة مجدَّداً، في ضوء فلسفة الاختلاف، لنسترشد بدولوز ولنستخلص قُدرَةَ الترجمة، بِخيانتها للأصل، على إدخال الجِدَّة إلى مضمار الكتابة، ومن ثَمّ إلى الحياة. ونظراً لكون المترجم كاتباً فإنه مُطالبٌ بأنْ يكون، وَفق دولوز، على غرار الكاتب "خائناً لهيمنته الخاصة وخائناً لجنسه، ولطبقته، ولأغلبيته - وهل من سبب آخر للكتابة؟- وعليه أن يكون خائناً للكتابة" حتى يتمكّن من الإبداع، حقيقةً، ومن أن يمنح "الكتابة لأولئك الذين لا يملكونها، ولكن هؤلاء يمنحون للكتابة صيرورة قد لا توجد الكتابة بدونها"، فتنخرط الترجمة في صيرورة الإبداع بإظهارها غنى الحياة، وبالعمل على تخصيبها بغيةَ إنمائها، وهي أخلاق عملية تنأى كلّية بالخيانة عن الفهم المُبتَذل، الذي راج عنها منذ قرون.

المساهمون