المؤقت الذي نحيا: موت لا يشبه الحياة

11 يونيو 2015
حياة تشبه الموت وموت لا يشبه الحياة (Getty)
+ الخط -
الأوضاع التي يحياها السوريون اليوم، في الداخل والمنافي ومخيمات اللجوء، طرحت أسئلة مكثفة عن معنى الحياة والوجود، عن الآني العابر والمقيم الأبدي، عن الموت والحياة، عن حياة طبيعية وأخرى مؤقتة، ليكتشف السوريون على وقع موتهم ونزوحهم، أنهم معلّقون في سماء المؤقت، فهم يستشهدون مؤقتا، ويعيشون مؤقتا، ويحبّون مؤقتا، ويرافقون مؤقتا، ويستأجرون بيوتا ليس لها طابع الديمومة، ويسكنون الخيام مؤقتا.. إلا أن هذا المؤقت الذي إحدى سماته أنه محدّد بفترة قصيرة، قد تجاوز الخمس سنوات دون أفق نهاية، فهل لا زال مؤقتا؟


المؤقت هو ذلك الزمن الذي يحياه المرء بين حالتين، متبوعا بلا استقرار ننتظر استقراره، كي يعيد دورة حياته التي كانت أو يبدأ نظاما جديدا وحياة جديدة، فيخرج من المؤقت الجزئي لينتظم في دورة الحياة الطبيعية. وعليه ففترة العزاء هي مؤقت يحياه المرء في حزن، يفرّغ خلاله شحن الموت ليعود وينتظم تدريجيا في لجة الحياة، وعطلة الصيف هي انتظار مؤقت للطلاب، يقضونه منتظرين عودة الصف، ومرحلة ما بعد التخرج مؤقت بانتظار الدخول في سوق العمل، ومرحلة الخطبة بين عاشقين مؤقت بانتظار دخول القفص لبدء حياة جديدة، والقيامة هي برزخ بين عالمين. هذا البرزخ الذي دخله السوريون منذ مارس/ آذار 2011 ولم يخرجوا منه، فغدا المؤقت طبيعيا والطبيعي مؤقتا، دون أن يكتسب أي منهما صفات الآخر، فلا الطبيعي الذي صار هو طبيعي، ولا المؤقت غادر طبيعته، فاندمجا معا في مؤقت اكتسب صفة الطبيعي دون أن يبارح أصله.

إحدى سمات المؤقت، عدم قدرة البشر على عيشه واقعا طبيعيا لأنه شبه مستحيل أساسا، فهو ضد الطبيعي، إذ كيف يمكن للمرء أن يعيش فترة الحداد كحياة طبيعية؟ أو كيف يمكن للمرء أن يعيش طبيعيا وهو ينتظر الحصول على عمل فترة طويلة؟ أو كيف يمكن أن يعيش في البرزخ زمنا طويلا منتظرا الجنة أو النار دون أن يحظى بأي منهما؟ ولعل حكاية "الجمجمة" التي لم تجد نارا تقبلها ولا جنة ترضى بها، تعتبر اختصارا مكثفا لهذا المؤقت الذي لا يعاش، فلا هو موت ولا هو حياة.

إلا أن السوريين اليوم يكتشفون شيئا فشيئا أنهم تلك الجمجمة التي لم تجد وطنا جديدا ولم تغادر حلم العودة للوطن، معلقين في مشجب مخيمات اللجوء أو زوارق الموت أو البيوت الصامدة تحت القصف أو أعين الاستبداد، يعيشون هذا المستحيل الذي اسمه المؤقت. يمر عمرهم كمؤقت، كفنجان قهوة نشربه ريثما يبدأ الفيلم أو مجلة نتصفحها ريثما يحين الموعد مع الطبيب، مع فارق أنه انتظار موشوم بالدم والحزن والموت والضياع والتشتت واللايقين.

يعبّر المؤقت عن نفسه في حياة السوريين، من تفاصيل بسيطة جدا تبدأ من عدم استبدال لمبة معطلة بأخرى جديدة، والإصرار على استعمال غرض انتهت صلاحيته، والاكتفاء في المنزل بالحاجات والمواد الأساسية فقط.. كل هذا ولاوعي المرء يقول: غدا أعود أو غدا أهاجر أو غدا أموت.. وبانتظار هذا الغد تمضي الحياة كمؤقت، كمنفى..

مؤقت مرّ كحياة طبيعية دون أن يكونها، لها من سمات الطبيعي: الموت والفرح العابر ونشوة لقاء الأصدقاء، ولها من المؤقت كل شيء: حياة تشبه الموت وموت لا يشبه الحياة.

(سورية)
دلالات
المساهمون