المؤبد لملاديتش الجزار: ضربة قاضية تنصف ضحايا سربرنيتسا معنوياً

23 نوفمبر 2017
ملاديتش أثناء الحكم أمس في لاهاي (ميشال بورّو/Getty)
+ الخط -
مرّ نحو ربع قرن على بدء الحروب الأهلية في يوغوسلافيا السابقة (1991 ـ 2001)، التي أدت إلى تفكك دولة قادها جوزيب بروز تيتو (1953 ـ 1980)، إلى دويلات متناحرة. حروب بقيت جذورها متأصلة حتى الأيام الحالية، بفعل سلسلة محاكمات لمرتكبي مجازرها، ومنهم "جزار البلقان" راتكو ملاديتش، مرتكب مجزرة العصر ذات الطابع الديني ــ السياسي، في سربرنيتسا البوسنية، بين 11 يوليو/تموز 1995 و22 منه، والتي سقط فيها أكثر من 8 آلاف بوسني على يد قوات صربية. ملاديتش حاصر أيضاً عاصمة البوسنة الحالية، سراييفو، بين 5 أبريل/نيسان 1992 و29 فبراير/شباط 1996. وعلى وقع دعوة الرئيس الصربي ألكسندر فوسيتش مواطنيه إلى "التطلع نحو المستقبل والتفكير في أولادنا والسلام والاستقرار في المنطقة"، قبل لحظات من إدانة ملاديتش بالحكم المؤبد، أُخرج الأخير من القاعة بعد أن نهض صارخاً "إنهم يكذبون. أنتم تكذبون. وأنا لست بخير".

أمس الأربعاء حكمت محكمة الجزاء الدولية في لاهاي الخاصة بجرائم الحرب في يوغوسلافيا السابقة، بالسجن المؤبد على ملاديتش، الزعيم العسكري السابق لصرب البوسنة، بعد إدانته بعشرة اتهامات بـ"ارتكاب جرائم إبادة" و"جرائم حرب وضد الإنسانية". في هذا الصدد قال القاضي ألفونس أوريه، إن "المحكمة تحكم على راتكو ملاديتش بالسجن المؤبد لارتكابه هذه الجرائم". كما رحّبت مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، بالحكم، معتبرة أنه "انتصار مهم للعدالة". وأعلن المفوض السامي لحقوق الإنسان، زيد رعد الحسين، أن "ملاديتش تجسيد للشر، فقد أشرف على بعض أفظع الجرائم التي حدثت في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، وجلب الإرهاب والموت والدمار لآلاف الضحايا، والأسى والمأساة والصدمة لأخرين لا حصر لهم". وأضاف أن "الحكم هو إنذار لمرتكبي مثل هذه الجرائم بأنهم لن يهربوا من العدالة بغض النظر عن مدى قوتهم وإلى أي مدى يستغرق الأمر. سوف يحاسبون". مع العلم أن الحسين كان عضواً في قوة الحماية التابعة للأمم المتحدة في يوغوسلافيا السابقة بين عامي 1994 و1996. كما اعتبر المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية التي أُسست في 1993 لمحاكمة المسؤولين عن ارتكاب جرائم حرب خلال النزاع في البلقان، سيرج براميرتز، أن "الحكم يشكّل مرحلة مهمة في تاريخ المحكمة وبالنسبة إلى القضاء الدولي".

ومن رأى مشهد السيدات الناجيات من مجزرة سربرنيتسا، أمس، عقب الحكم على ملاديتش، قاتل أزواجهن وأولادهن، أدرك أن يوغوسلافيا السابقة، بدولها الحالية، في حاجة ماسّة إلى عدالة، لمحاسبة من أشعل البلقان في تسعينيات حاقدة. ملاديتش، كان أحد أبرز الرجال الذين قاموا بعملية "تطهير" طائفية ومناطقية، معتمداً مبدأ "الإبادات الجماعية"، التي لم تكن أوروبا تتوقعها في عصرٍ، تلا سقوط جدار برلين عام 1989، ثم انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991. كانت رياح التغيير عاصفة في الشرق الأوروبي، ورغم تلقي الجميع، تقريباً، الموجة الجديدة من التحوّلات السياسية، كانت يوغوسلافيا، عبر حكامها، تواجه التغيير بالدماء والمجازر.

ملاديتش، المولود في قرية بوزانوفيتشي، في مقاطعة كاليفونيك، في الهرسك وهي جزء من البوسنة اليوم، في 12 مارس/آذار 1943، كان والده نيديا، أحد أعضاء حزب "جيش التحرير الوطني اليوغوسلافي"، الساعي إلى إقامة دولة شيوعية في يوغوسلافيا، وقُتل حين كان ملاديتش في سنّ الثالثة. وبسنّ الـ22 انضمّ ملاديتش إلى الجيش اليوغوسلافي، في عام 1965. ترقى سريعاً في الرتب العسكرية، إلى أن أصبح جنرالاً عام 1991، وشارك في الحرب ضد الكروات، ثم حاصر سراييفو، في حصار هو الأطول لمدينة في تاريخ الحروب الجديدة. كانت المدينة أسيرة القصف اليومي ورصاص القنّاصة. ومع تحوّلات الأحداث اليوغوسلافية، بات قائداً عاماً لصرب البوسنة، على 80 ألف مقاتل.




في عام 1995، بدأت قوات حلف شمال الأطلسي باستهدافه هو وقواته، لفكّ حصار سراييفو، ما دفعه إلى التراجع وارتكابه مذبحة العصر، في سربرنيتسا، وقتل 8300 شخص. إثر ذلك بدأت الضغوط تتوالى عليه، سواء من رئيس جمهورية "صرب البوسنة" الأول، رادوفان كارادزيتش، أو الرئيسة الثانية لهذه الجمهورية، بيليانا بلافسيتش. كارادزيتش دين في لاهاي، بارتكابه جرائم عدّة في يوغوسلافيا، فُحكم عليه بالسجن 40 عاماً، في 24 مارس/آذار 2016، أما بلافسيتش، فُحكم عليها بالسجن 11 عاماً في سجن سويدي، في عام 2003، لكنها خرجت في 27 أكتوبر/تشرين الأول 2009، بعد مضيّ ثلثي سنوات العقوبة.

أما ملاديتش، فبوشرت ملاحقته قانونياً في 24 يوليو عام 1995، لكنه فرّ، مختبئاً في أماكن عدة. كما شوهد خلال مشاهدته مباراة لكرة القدم في العاصمة اليوغوسلافية بلغراد، بين يوغوسلافيا والصين، في مارس 2000. حضر اللقاء الكروي في الأماكن المخصصة لكبار الضيوف، محاطاً بثمانية عناصر من حرّاسه. كما أفاد شهود عيان عن مشاهدته في العاصمة الروسية موسكو، والعاصمة اليونانية أثينا، من دون إبراز أدلّة حاسمة. كان وضع ملاديتش "قوي"، إلى اليوم الذي تمّ فيه إلقاء القبض على الرئيس اليوغوسلافي، سلوبودان ميلوسيفيتش، في عام 2001، بتهمة "ارتكاب جرائم حرب". هرب ملاديتش مجدداً، بينما عُثر على ميلوسيفيتش ميتاً في سجنه في لاهاي الهولندية، عام 2006.

أما لماذا تحوّل العسكري النشيط إلى "جزار" أرعب البلقان، فأمر اعتبر البعض أنه "يعود إلى انتحار ابنته آنا، في 24 مارس 1994"، أي قبل ارتكابه مجرزة سربرنيتسا بأشهر قليلة. تحول ملاديتش إلى شخص مجنون بالنسبة لكثر، حتى إن أحد رجاله، قال لمجلة "نيوزيوك" مرة، إن "البعض اعتبره مجنوناً. في الواقع إن لملاديتش مرحلتين، مرحلة ما قبل آنا، ومرحلة ما بعد آنا. لم يُعالج من الآثار النفسية لموتها، وكان رجلاً محطماً". وعلى الرغم من السماح له بزيارة قبر ابنته مرات عدة، أثناء سجنه، إلا أن ذلك لم يشفع لراتكو ملاديتش، تحطيمه حيوات آلاف البوسنيين، في جرح يوغوسلافي، سقط فيه أكثر من 140 ألف إنسان، ونزح أكثر من 4 ملايين آخرين، في أبشع سنوات البلقان.

دلالات