المؤامرة النسبية
غريب أمرنا، أو أمر بعضنا، في التعاطي مع التحالف الدولي الجديد لمحاربة "الدولة الإسلامية"، والتي كان الجميع يشتكي من إجرامها، ويدينها بأشد العبارات، ويحذر من أن تمددها خطر داهم على أمن المنطقة.
لم يمر على هذا الكلام وقت كثير. كان بالأمس القريب، وتحديداً قبل أقل من شهر، حين أعمل التنظيم سكاكينه تجزيراً برقاب العراقيين والسوريين وبعض الأجانب. وكان يمضي باتجاه كسب مزيد من الأرض، ما جعلنا جميعاً نتحسس رقابنا، ونستشعر برودة السكين قبل سخونتها.
كنا نقف أمام هذا الخطر عاجزين، لا حول لنا ولا قوة، وخصوصاً مع انهيار جيوش في المنطقة أمام ضربات هذا التنظيم، المجهول الأصول والجذور والرعاية والتمويل. لم تكن الأصوات المطالبة بالتدخل الدولي لوقف الزحف الداعشي خفية. صدرت من أكثر من منبر، وعلى أكثر من لسان، ومن أكثر من اتجاه. تساوى فيها مؤيدو ثورات الربيع العربي مع مناصري الثورات المضادة، والذين كانوا يرون في الهبات الشعبية، المطالبة بالتغيير، مؤامرة على المنطقة. هؤلاء الذين وقفوا صارخين في وجه أي مسعى للتدخل الدولي في سورية، لوقف سكاكين بشار الأسد وبراميله عن الإجهاز على من تبقوا من سوريين، هم أنفسهم الذين باتوا يهللون لضرب "داعش"، على الأرض السورية أو غيرها. كيف لا والنظام السوري نفسه منفتح على كل أنواع الغارات التي "تساعدنا في محاربة الإرهاب"، كما قال وزير الخارجية السوري، وليد المعلم، على منبر الأمم المتحدة.
لكن، التهليل نفسه لم يدم، تناسى هؤلاء كل صيحاتهم واستنجاداتهم للتدخل العالمي. والكلام هنا، تحديداً، عن أنصار النظام السوري وإيران، ومن يدور في فلك هذين النظامين. التهليل استبدل بالحديث المحبب إلى قلوبهم، أي حديث "المؤامرة" التي تحاك مجدداً ضد المنطقة، وضد "الأراضي السورية والعراقية". ولا بد لهذا الحديث من أن يستكمل بسيناريوهات وأطروحات تدلل على التآمر الدولي على المنطقة.
هكذا بدأنا نطالع في منابر ناطقة باسم النظامين، السوري والإيراني، مثل هذه المقالات والتحذيرات، المعاكسة لما عليه الوضع قبل أقل من شهر. استرجاع بعض ما حدث في الأيام القليلة السابقة لانطلاق التحالف الدولي قد تعطي إجابة على التحولات التي حدثت في خطاب "أهل المؤامرة". فمع بدء الإعداد للتحالف الدولي، منّى النظام السوري وأنصاره النفس بالانضمام إلى ركبه، على اعتبار أنه سيكون فاتحة تعويم بشار الأسد وعودته إلى حضن الشرعية الدولية من باب "مكافحة الإرهاب"، وهو شعار كان يرفعه دائماً في وجه متهميه بقتال شعبه، وهو ما لا يزال النظام يعول عليه، بدليل حديث المعلم أخيراً.
لكن، لم تجر رياح التحالف كما تشتهي سفن النظامين، السوري والإيراني، وخصوصاً مع استبعاد الطرفين من معركة محاربة "داعش" والتأكيد الأميركي أن لا نية لإعادة الاعتبار للأسد ونظامه.
عند هذه النقطة، كان التحول، وعاد التشكيك ب "الأهداف السرية" للتحالف. فالمؤامرة بالنسبة إلى هؤلاء نسبية وغير ثابتة، يقوم قياسها على ما إذا كانوا فيها أم لا. فلو أعلن الأميركيون ضم طهران ودمشق إلى التحالف الدولي، لاكتسبت الحرب كل معاني القداسة، وكل المعايير الأخلاقية، ولبات قتل المدنيين في غارات الطائرات من دون طيار أضراراً جانبية، لا بد منها في الحروب الكبيرة، تماماً كما كانوا يبررون للنظام السوري مجازره. لكن، بما أن التحالف استثنى هاتين الدولتين، فقد "اتضحت المؤامرة"، وخرجت في ركبها كل مصطلحات التقسيم والفوضى الخلاقة، وغيرها من التعابير المعلبة التي تستخدم في كل زمان ومكان. والمفارقة أن التعابير نفسها استخدمت مع ظهور "داعش" وتمدده، فـ "المؤامرة" مرنة، وتحتمل كل التأويلات الممكنة، قياساً فقط على المكان منها.