اللّامركزية المؤجلة في تونس

08 سبتمبر 2015

أطفال تونسيون يحملون خريطة بلدهم أثناء الثورة (17 ديسمبر/2011/أ.ف.ب)

+ الخط -
شهدت تونس، على امتداد عقود من قيام دولة الاستقلال (1956)، حالة من مركزة السلطة ومصادر القرار ومواقع النفوذ في عدد من المؤسسات السيادية في العاصمة التي احتكرت إدارة البلاد وتوجيه الشأن العام سنوات عدة. فكان لدوائر القرار، في قصر الرئاسة في قرطاج وفي مقر الحكومة في القصبة وفي مجلس النواب في باردو، الرأي الفصل في رسم السياسات العامة للبلاد، وفي تحديد معالم المخططات التنموية وطنياً وجهوياً، وفي تصريف ميزانية الدولة، وتوزيع الثروة على النحو الذي يروق للسلطة المركزية. وجرى، في هذا السياق، تهميش السلطة المحلية في المحافظات والمدن والقرى الصغيرة التي ظلت لا تملك مطلق قرارها المالي والإداري. بل هي تابعة، في كل كبيرة وصغيرة، لإملاءات أصحاب القرار في العاصمة، فبدا نظام التسيير الإداري عمودياً بامتياز. وأثر ذلك سلباً على التنمية الجهوية التي ظلت بطيئة ومتعثرة. فعلى مدى عقود من حكم الحبيب بورقيبة وخلفه زين العابدين بن علي، اعتمدت السلطة المركزية سياسات تنموية غير عادلة، لا تراعي خصوصيات الجهات وحاجياتها وأولوياتها، بقدر ما تراعي مصالح الطبقة الحاكمة التي حرصت على تركيز الثروة وتوفير الخدمات ودفع التنمية في مناطق دون أخرى. فجرى تهميش الجهات الداخلية والمدن الطرفية (محافظات الوسط والجنوب والشمال الغربي) لصالح مدن صاعدة في الساحل والشمال الشرقي. وأنتج ذلك فجوة تنموية بين المحافظات، وأورث حالة من انعدام العدالة في توزيع الثروة، ما جعل أهالي بعض المناطق يشعرون بالغبن، ويحتجون في أكثر من مناسبة على السياسات التنموية المركزية الجائرة. وكان الإحساس بالتمييز الجهوي من الأسباب التي أدت إلى اندلاع ثورة 14 يناير/كانون ثاني 2011. 
وتفيد أحدث الإحصائيات الصادرة عن المركز الوطني للإحصاء ووزارة الشؤون الاجتماعية، أن نسبة البطالة في المدن الطرفية في الوسط الغربي والجنوب تفوق 30%، في حين تصل بطالة أصحاب الشهادات العليا إلى قرابة 50%. وتبلغ نسبة الفقر في تلك المحافظات 38%، في حين لا يتجاوز الإنفاق الأسري سقف الـ 300 دينار شهرياً. ولم تتجاوز نسبة الاستثمار المحلي، أو الأجنبي، في تلك المناطق حدود الـ 20.% ويعاني الأهالي من قلة المرافق الخدماتية وتدهور البنية التحتية، وتكفي الإشارة إلى أن بلديات مناطق الظل لا تحظى سوى بـ 4% من حجم الإنفاق العمومي. وفي المقابل، تستأثر العاصمة والساحل بـ 34% من الإنتاج الصناعي و75% من القيمة المضافة، وتحتكر 82% من المخططات التنموية على مدى خمسة عقود خلت. ودفع التفاوت الجهوي المشهود أغلب سكان المدن الطرفية إلى النزوح نحو المدن الساحلية، وإلى العاصمة، بحثاً عن أسباب العيش الكريم.

ومع قيام الثورة، تزايد الوعي بخطورة السياسات التنموية المركزية، وتزايدت الدعوات إلى اعتماد مشروع اللامركزية الاقتصادية والإدارية، تحقيقاً للعدالة بين الجهات، وتكريساً لما تسمى سياسة التدبير الحر في إدارة الشأن المحلي في المحافظات. واشتمل دستور 27 يناير 2014 أربعة عشر فصلاً في التشريع للامركزية ومتعلقاتها، والإقرار بالتزام الدولة باعتمادها آلية عملية في توزيع السلطات، وترسيخ تقاليد الحكم التشاركي القائم على تقاسم المهام التنموية والسياسية والإدارية بين الحكومة والجماعات المحلية، في مختلف جهات الجمهورية، فيكون للمجالس البلدية والجهوية، وللمؤسسات المدنية والمنظمات الأهلية دور في إدارة الشأن المحلي، ويكون لها هامش من الاستقلالية، تقدر معه على اتخاذ القرار، وعلى التفاعل الفوري مع حاجيات الناس. ويتحقق ذلك بتقسيم البلاد بحسب الفصل 131 من الدستور إلى جهات وبلديات وأقاليم، تشرف على تسييرها "مجالس بلدية وجهوية منتخبة انتخاباً عاماً، حرّاً، مباشراً، سريّاً، نزيهاً، وشفافاً" (الفصل 133). وتتمتع الجماعات المحلية بصلاحيات وموارد مالية، منها ما هو ذاتي، ومنها ما هو منقول إليها من السلطة المركزية، ومنها ما هو مشترك بين الطرفين (الفصل 135).
وتكمن أهمية مشروع اللامركزية المنشود في أنه من أبواب الديمقراطية المحلية، ومن أشكال الحوكمة المفتوحة، وسبيل إلى تحقيق التوازن بين الجهات، وترشيد استخدام الثروة محلياً، وتوظيفها في خدمة الصالح العام، مع تمكين المواطن من القيام بدوره في المراقبة والبناء. لكن تحويل اللامركزية من شعار إلى واقع، ومن حلم إلى حقيقة، أمر تحول دونه عقبات عدة، لعل أهمها عموم الخطاب الدستوري، وعدم تفصيل المشرّع القول في شأن سقف استقلالية الجماعات المحلية وحدود صلاحياتها، تضاف إلى ذلك صعوبة إعادة التشكيل الترابي/الجغرافي للبلاد، وتحويلها من محافظات إلى أقاليم، وما يقتضيه ذلك من دمج وإعادة تقسيم، قد تثير نعراتٍ جهوية. هذا إلى جانب الغموض الذي يحيط بكيفيات مراقبة الجماعات المحلية، ومصادر تمويلها، ومدى قدرتها على التفاعل مع ظاهرة المطلبية الزائدة المشهودة في تونس بعد الثورة. والحقيقة أن نجاح مشروع اللامركزية ممكن، في حال إقدام الحكومة ومجلس نواب الشعب على اتخاذ خطوات إجرائية، على درب ترجمة هذا المشروع إلى واقع معيش، فمن المهم إطلاق استشارة شعبية واسعة حول هذا الموضوع، والقيام بمسح شامل للمحافظات وللقرى، لمعرفة مقدراتها الطبيعية والمادية، والوقوف على حاجياتها، والوعي بكيفيات تأمين التنسيق والتضامن بينها. ومن المهم، في هذا السياق، إحداث المجلس الأعلى للجماعات المحلية الذي نص عليه الدستور، وصوْغ القانون التفصيلي المتعلق به، فهذه الخطوات وغيرها ضرورية للانتقال باللامركزية من كونها مدسترة، إلى كونها معيشة، ومن كونها حلماً مؤجّلاً إلى كونها واقعاً يحياه الناس.
(كاتب تونسي)
511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.