يحمل جبل اللّويبدة في عمّان من التاريخ والإرث الثقافي والفكري والسياسي ما لم تحمله كثير من المناطق العمّانية الأخرى. لا نعلم على وجه الدّقة أصل تسميته، ولو أن بعضهم ذهب إلى أنها كنايةٌ عن جبلٍ "يَلبِدُ" بين عدّة جبالٍ، هادئًا مستكينًا، على عكس صخب عمّان وضيق صدرها وتشوّه بنيانها.
ثمّة ما هو منطقي في هذه الرواية عن أصل التسمية؛ إذا ما انتبهنا إلى أن سياسيين ومفكّرين وفنانين كُثرًا اختاروا العيش فيها منذ منتصف القرن الماضي، وأنّه يحتضن اليوم مراكز ثقافية عديدة، مهما اختلفنا حول أدائها، وليس أخيرًا أن شوارعه كانت، حتى سنوات قليلة مضت، مكانًا هادئًا يكاد يخلو من المارّة منذ ساعات الليل الأولى.
في السنوات الأخيرة، وقع جبل اللويبدة في شرك الصراع الثقافي الذي نصبته النيوليبرالية. كانت الثقافة وما تزال تعكس هوية وأسلوب المُنتصر في هذا الصراع الحضاري. ولأن القوى الرأسمالية لا ينقصها ما يجعل منها الطرف الأقوى؛ كانت لها كلمتها في إعادة تشكيل البناء الثقافي للمجتمعات الأضعف، وإن كان حدوث هذا ارتبط بعدة مظاهر سياسية وعسكرية، إلّا أن تعزيز دور مؤسسات المجتمع المدني المُعتمدة على المِنَح والمساعدات الخارجية كان له الفضل الأكبر في تحقيق هذه السطوة الثقافية، خصوصًا منذ نهايات القرن الماضي؛ عندما أدخلت الرأسمالية البشر في مرحلة الليبرالية الجديدة، وما رافق ذلك من بروز تيّار ما بعد الحداثة.
انتقل المجال الثقافي من كونه عاملًا مساعدًا في تحقيق السيطرة ليصبح أبرز هذه العوامل، وكان لانفتاح قنوات الاتصال بشكل واسع، والضخ الإعلامي المرئي والمسموع؛ دور رئيسي في فشل أي محاولة لاصطفاء ما يمكن أخذه من هذا العالم المفتوح على مصراعيه أمامنا، فابتلعنا المظاهرَ المُصدّرة لنا كما هي؛ ما جعل التبادل الثقافي، المُفترض تحقيقه خلال العولمة؛ عمليةً غير متكافئة، بل تحوّل إلى غزوٍ ثقافي، خصوصًا أن عهد ثقافة الصورة تفوق على الثقافة المكتوبة، وأن التقليد بات سمة الوعي الجمعي عند معظم الشباب الذين وجدوا فجأة في اللويبدة مستوطنة لعدد كبير من موظفي مؤسسات المجتمع المدني والهيئات الدولية، يحتلون الآن نصيبًا كبيرًا من التشكيل الديموغرافي في هذه المنطقة.
بدأ الحجّ إلى اللويبدة. مشهدٌ يذكّرنا برواية "التّيه" (الجزء الأول من خماسية مدن الملح لعبد الرحمن منيف)؛ عندما تحوّل وادي العيون، بخضرته ومائه وسكونه، إلى صحراء تعجّ بهياكل حديدية صفراء تأكل الأخضر واليابس.
حشودٌ أتت من كل مكان إلى اللويبدة؛ لتشبع فضولها في التعرّف عن كثب على طباع وعادات وسلوك الرجل الأبيض، الذي لطالما سيطر علينا عن بُعد، باتت شوارعها صاخبة ليلًا ونهارًا، وشرعت رؤوس الأموال بغزو سُكونِ المنطقة وتشويه معالمها؛ ثقافةٌ مُعلّبةٌ للبيع، وصورٌ نمطيّة عن أجواء وطقوس "المثقفين"، مبادرات ثقافية مكررة ومستنسخة، لا نعرف ما الذي حال دون اندماجها في جسمٍ واحد؛ وكل شيء أصبحَ جاهزًا كي تزيّن صفحتك الإلكترونية بصورك الثقفاوية.
لم تأتِ هذه الفكرة من فراغ، وفي حالات كثيرة، لم تخضع لحسابات المخاطرة في الاستثمار؛ فثمّة توجّهٌ يسيطر على شريحةٍ كبيرة من الشباب، مدفوعين برغبة نفسية قوية بتقليد شخصيات بعينها، ومُحاكاة أجواء ثقافية معيّنة، ولن يترددوا لشراء مظاهر الثقافة بفنجان قهوة أو كأس من النبيذ، لمجرّد التقاط صورٍ توحي بانشغالهم بالأدب والكتابة والقراءة، علمًا أن الناتج النهائي مجرّد صورة، أو على أبعد تقدير خاطرة -ما بعد حداثوية- تنشر على موقع فيسبوك.
مؤخرًا؛ ساقت وسائل إعلام أردنية أنباءً حول نيّة أمانة عمان الكبرى الحفاظ على "الهوية المعمارية" لجبل اللويبدة، باعتباره منطقة تراثية تشكّلُ حالةً عمرانيّة مُتفرّدة في العاصمة؛ وذلك من خلال منع تمدد مهن، وصفتها بأنها "لا تتناسب ومنطقة اللويبدة"، واعتبارها منطقة "مغلقة" على مهن معينة، لا تتواءم مع النسق المعماري والطراز العام للمباني والأحياء التراثية، إضافة إلى وضع رخص المهن الممنوحة سابقًا تحت الدراسة؛ للتأكد من مناسبتها لطبيعة الحي الهادئة وما يحويه من قيم جمالية، على حد وصفها.
من غير المعروف إذا ما كان هذا التوجّه جاء مدفوعًا بحملات التشويه التي تُمارس ضد المكان ومن اختاروه ملاذًا لهم من هجوم التلوّث البصري الذي يلفّ العاصمة؛ إذ انتشرت مؤخرًا العديد من المقالات التي حاولت اختزال هوية هذه المنطقة وروّادها، على أنها مجرّد حانة كبيرة تملأ الكحول شوارعها وأرصفتها، تارةً بدافع الغيرة على عادات وتقاليد المجتمع وحيائه العام! وتارةً بعباءة الانفتاح والليبرالية.
لا نعلم ما هي المهن المشمولة بالمنع وسحب الترخيص حتى الآن؛ ولا أؤيّد الفكرة القائلة إن كل استثمار في اللويبدة هدفه الربح المادي على حساب الثقافة، بل إن الكثير من المقاهي والمؤسسات أخذت على عاتقها الحفاظ على هويّة المنطقة ودعم الجانب الثقافي وتبنّي المبادرات الخلاقة؛ إضافةً إلى أن هذه الخطوة لن توقف تنميط الصورة الثقافية؛ بل ستلعب دورًا في تكريسها، من حيث تأكيدها للتوجّه القائل إن الثقافة مجموعة مظاهر ومحال ومهن تبيع رموزًا ثقافية، فالوضع الراهن الذي فرضته الليبرالية الجديدة طمس الأيديولوجيات والهويات والثقافة، وخلق مكانها خيارات ضيّقة تتمثل بتقليد الثقافة الاستهلاكية، أو الدخول في عزلة تحدُّ من الانفتاح على ثقافات العالم؛ وهما خياران أحلاهما مرّ بالنسبة لمن يحاول إخراج رأسه من هذه العلبة الكبيرة التي يتكدّس فيها البشر والبضائع المستوردة فوق بعضهم بعضًا.