اللواء لم يعتذر هذه المرّة

08 سبتمبر 2018

اللواء توفيق أبو نعيم.. لا يجوز انتقاده في غزّة

+ الخط -
كأن المشاهد تتناسخ مع اختلاف الأسماء في الدول العربية، أو حتى في التي لم تصل بعد إلى كونها دولاً! يوم الخميس، قبضت قوات الأمن في غزة على الأستاذين الجامعيين، أيوب عثمان ونهاد الشيخ، وحوّلتهما إلى النيابة العسكرية، لمجرّد أن جمعية أساتذة الجامعات في غزة أصدرت بياناً يعترض على التعدّي على أرضٍ تملكها الجمعية. تداول المتضامنون أن التهم شملت "الإساءة للعمل الثوري، الإساءة للمؤسسة العسكرية، إساءة استخدام التكنولوجيا".
يليق المشهد بدكتاتورياتٍ تحاكم المدنيين عسكرياً لأتفه الأسباب، وهو ما استفزّ حملة رفض على مواقع التواصل، توقّعت أن تنتهي بالاعتذار، واعتباره خطأ فردياً كالعادة، لكن بيان المتحدث باسم داخلية حركة حماس عن التراجع لم يعتبر أنه حدث خطأ أصلاً. قال البيان إنه "بتدخل كريم من الأخوين د. عطا الله أبو السبح ود. عبد الستار قاسم، تنازل اللواء توفيق أبو نعيم (مدير عام قوى الأمن في غزة) عن حقه القانوني في الإساءة التي تضمّنها بيان جمعية أساتذة الجامعات بحقه، وبناء عليه تم إنهاء القضية". إذن، اللواء توفيق هنا صاحب حق، وقد تفضّل بالتنازل عنه بوساطة شخصية، وهكذا تبقى المحاكمة العسكرية لمن يسيء لفظياً لأي عسكري حمساوي، أمرا واردا، فليحذر الجميع.
وعلى الرغم من إيجابية أن عديدين من أنصار "حماس" رفضوا ما حدث علناً، إلا أن جمهوراً آخر تطوّع بالتبريرات، أو اعتبر أن المهم أن يكون الحاكم قوياً ومُهابا مثل رئيس تركيا أردوغان، لا ضعيفاً مثل رئيس مصر المعزول محمد مرسي، كأن أزمة الأخير، في نظرهم، أنه لم يقمع معارضيه.
زرت، في عام 2012، غزة والتقيت نشطاء وصحافيين من المختلفين مع "حماس"، سمعت قصصا عديدة شبيهة، خصوصا على المستوى الأدنى، حيث يستهدف فرد أمنٍ، أو محققٌ، فتاةً غير محجّبة، أو يستهدف قائدٌ ميداني صحافياً نشر ما لا يرغب فيه، قالوا إن السياسة المعتادة أنه إذا كان الضحية مجهولاً ستمرّ الواقعة. أما إذا كان الضحية صاحب تأثير، سواء بالمقاييس المحلية (كونه ابن أسرة كبيرة) أو بالمقاييس الدولية (كونه صحافيا أو عاملاً في جهة دولية) يتم التراجع، ويظهر مسؤول محترم ليعتذر بكل تهذيب، لكن لا يشمل هذا تحقيقاً جاداً أو عقاباً للمخطئ أو ضماناً بعدم التكرار. قال أحدهم مازحاً إنهم يسمونه "لواء برتبة مُعتذِر". المشكلة أن استمرار هذا النهج أدّى إلى اختفاء حتى صيغة الاعتذار والخطأ الفردي، كما أدّى إلى توسّعه إلى دوائر أقرب، فالأستاذ أيوب عثمان، أحد ضحايا الأزمة المشار إليها أعلاه، معروفٌ بمواقفه المؤيدة لحركة حماس والحادّة ضد ما يعاديها.
وُجّهت، في تقرير "هيومن رايتس ووتش" عن عام 2017، انتقاداتٌ للسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية ولحركة حماس في غزّة، حيث تلقت اللجنة المستقلة لحقوق الإنسان في فلسطين 205 شكاوى تتعلق بالتعذيب وسوء المعاملة من السلطة في الضفة، و193 شكوى من النوع نفسه ضد قوات الأمن في "حماس"، حتى 31 أكتوبر/تشرين الأول 2017. ومن الأمثلة "اعتقلت سلطات حماس عشرات المتظاهرين في أعقاب مظاهرات، في يناير/كانون الثاني، تتعلق بأزمة الكهرباء في غزّة، فضلا عن نشطاء وصحافيين ونقاد على مدار السنة". وفي المقابل، اعتقلت السلطة في الضفة الغربية عشرات الصحافيين والناشطين وأعضاء المعارضة. انتقدت المنظمة أيضاً إصدار السلطة، في يونيو/حزيران الماضي، قانونا جديدا للجرائم الإلكترونية، منح الحكومة سلطة واسعة للسيطرة على النشاط عبر الإنترنت، كما منع الوصول إلى 29 موقعا إخباريا على الأقل تابعا لفصائل معارضة للرئيس الفلسطيني محمود عباس.
هذه هي المنظمة نفسها التي طردت إسرائيل ممثلها بعد اتهامه بدعم مقاطعة إسرائيل، وهي نفسها التي تصدر التقارير ضد انتهاكات مختلف الأنظمة العربية المستبدة. نظريات المؤامرة لا تجدي، ودفن الرؤوس في الرمال لا يفيد. هناك فيلٌ حقيقيٌّ في الغرفة، يجب النظر إليه ومعالجة أزمته، فماذا يبقى للفلسطينيين بعدما فقدوا الأرض، وأسباب القوة المادية، إذا فرّطوا أيضاً في أسباب التفوّق الأخلاقي؟