اللمسة الأخيرة

08 مارس 2018
+ الخط -
نشأ الصبي في بيئة معدومة الدخل، وشق طريقه بنفسه قدر استطاعته، واشتغل بالأدب وعرفه الناس بخطبه القوية وتأثيره البالغ. انكب على الكتب يجمع من فوائدها، ولكنه يعيش في مستوى اجتماعي متدن، وليخرج من عنق الزجاجة حدثته نفسه بجمع مادة معجم!

التأليف ليس الوسيلة المثلى لتحسين الدخل، ربما لم يدرك هذا الشخص ذلك حينها، وقد يكون ذلك من سوء حظه أو لحسن حظ الناس! بعدما انتهى من مادة المعجم كان عليه البحث عن مموّل لمشروعه، وكان في المدينة رجلٌ يتغنى بحبِّ العلم والعلماء، ويرعى صغار الأدباء ويحتفي بهم.

طفق صاحب المعجم يسأل عن هذا المموّل الكريم، حتى اتصل به وتعرف عليه عن قرب، وكذّبَ الخَبَرَ الخُبْرُ؛ فوجد الشاب من المموّل إعراضًا عنه لم يتوقعه. آثر الشاب الانسحاب بكرامته قبل أن يُطرد صراحًا بواحًا، وعاد أدراجه يبحث عن مموّل مهتم بمشروعه. ظل يجوب البلاد أشواطًا بعد أشواط، وفي كل مرة يعود بخفي حنين، لكنه لم ييأس من تلك المحاولات البائسة.


جلس على كرسه الهزاز يتأمل ما يحدث؛ فالتمعت في ذهنه فكرة الكرسي الذي يجلس عليه، وقال بصوتٍ مسموع: أنا أسعى لنشر معجمي بنفس طريقة الكرسي الذي أجلس عليه الآن، وهذا لن يوصلني بأي حالٍ لتنفيذ فكرتي. عليَّ أن أسعى لهدفي بوسيلةٍ أخرى؛ فإما أن أركض وإما أن أصل إليه على كرسي متحرك. وحين انقطعت به السبل ولم يقتنع أحدهم بفكرته، آمن هو بنفسه وخطط لطباعة المعجم على نفقته الخاصة، وهي طريقة الكرسي المتحرك التي لجأ إليها؛ فمشى إلى هدفه في مدةٍ بلغت سبع سنوات.

قضى سبعة أعوام في شظف العيش يقتات ما يقيم أوده، ويحتفظ بما يزيد عن حاجته الأساسية في الحياة لينفذ مشروعه. وبعد هذه المدة الطويلة أعلن في الجرائد أنه سيطبع معجمه خلال أيام. تلقف الناس خبر صدور معجمٍ جديد، ودارت الأسئلة حول صاحب المعجم وحياته؛ فوجد فيها المموّل الأول فرصة لركوب الموجة، وادعاء فضل رعاية هذا الموهوب والإغداق عليه لإتمام المعجم وخدمة البشرية.

كتب المموّل الأول مقالًا يمتدح فيه المعجم وصاحبه، ويعده بتذليل كافة الصعاب التي تعترض طريق ظهور المعجم للنور، وأن الأهمية البالغة لهذا المعجم تقتضي تسخير كل الإمكانيات لطبعه ونشره، وأنه سيتولى هذه المهمة الجليلة حبًّا في العلم ورجاء نفع البشرية جمعاء!

لم يدر بخلد المموّل أن سبع سنوات من الكدح والشقاء لن تمحوها كلمات براقة وشعارات خفاقة؛ فكتب صاحب المعجم صبيحة اليوم التالي في الجرائد مقالًا للرّد على هذا المموّل. كانت كلمات صاحب المعجم تقطُرُ أسى، وقال فيها: لقد كنت في حاجةٍ لهذا التمويل من سبع سنوات، ولكنني وقفت ببابك كاسف البال وخرجت من عندك مجروح الكرامة، وأريقت ماء وجهي في بلاطكم دون رحمة غير مرة. لست في حاجة لدعمكم الآن؛ فقد فعلتها بمفردي دون مساعدتكم.

الشكر لك ولمن خذلني وأغلق بابه في وجهي؛ فقد أرشدني للاعتماد على نفسي. أنا من بذل الجهد الجهيد في هذا العمل، ولن أسمح لأحدٍ بأن يحرمني مجهودي، أو أن يبدو صاحب اللمسة الأخيرة في معجمي.

إن وجود أمثالك يا سيدي في مجتمعنا نعمة وليس نقمة؛ فأنتم تصرخون في أعماقنا "نحن سنسرق أعمالكم ما لم تستميتوا في إنجازها دون اللجوء لمساعدتنا"، وقد أنجزت عملي وحدي بفضل خذلانكم. إنه صامويل جونسون صاحب قاموس اللغة الإنكليزية الشهير، وقد رفض إغراءات اللورد تشسترفيلد بعد أن خذله. صمم خريطة نجاحك بنفسك؛ فنجاحك يعتمد عليك.
دلالات