اللص والحمير

08 ديسمبر 2019
+ الخط -
لم يكن لصًّا عاديًّا، وهو يعيد جزءًا من مسروقاته إلى أصحابها؛ لقاء نزع ثوب اللصوصية عنه، والاعتراف به فردًا من العائلة الكبيرة، ومنحه الملكية الكاملة على الجزء الأهم من مسروقاته، ممثلًا بـ"البيت العتيق". خطّط لسرقته بدهاء، فقد كان يدرك، منذ البداية، أن البيت "العتيق" محاطٌ برهط من ذوي القربى الذين سيشاركون في الدفاع عنه، فرسم خطته على قاعدة سرقة أزيد من بيت، كي يكون في مقدوره المساومة لاحقًا على ما سرقه منهم، بعد أن يبلغ خصومُه مرحلة الإنهاك، واليأس من استعادة مسروقاتهم، فينقضّ عليهم بعرضه السابق. 
بالطبع، نجحت خطة اللص بحذافيرها، كما خطّط لها تمامًا، حيث بدأ بالبيت الأكبر أولًا، الذي يمثل الثقل الأهم من بيوت الحيّ، فاستدرجه إلى معاهدةٍ تتيح للمسروق أن يستعيد ما اغتصب منه، شرط أن يقف على الحياد، وأن يعترف به "جارًا" جديدًا، وبسيادته على سرقته الأهم، ممثلة بـ"البيت العتيق"، وهو ما حدث.
والغريب أن "البيت الأكبر" عدّ ما حدث نصرًا مؤزرًا، وأبى إلا أن يقيم طقوسًا احتفالية بعودة المسروقات إلى سيادته، وجعله "عيدًا سنويًّا"، يضاهي عيد ميلاده، على الرغم من أنه لم يستعد غير ما يملكه فقط، فلم يتجاوز بذلك "حظ الفقير" الذي اعتقد أنه محظوظٌ لمجرّد أنه عثر على حماره. ولا حاجة للقول إنه التزم بعهد الحياد التزامًا لا تخترقه ذبابة ولا قنبلة نووية، ولم تحرّك فصول المأساة التي دارت رحاها بين جاره الضحية والسارق أزيد من نصف قرن أي شعرة في بدنه، بل اعتبرها محض "منازعات جيران" سيتكفّل الزمان بحلّها، على الرغم من أن صدى وصية أبيه الراحل كان ما يزال يتردّد في المكان: "ما أخذ بالقوة لا يستردّ بغير القوة"، لكنه ارتأى أن في وسع "السلام" أن يعيد المسروقات لأصحابها، حتى لو كان الثمن سرقة حقوق الأخ والشقيق؛ وعلى كل امرئ "أن يقلع شوكه بيديه".
عمومًا، بعد أن استتبّت الخطة كما شاء لها اللص الداهية، اتجه، بعد نصف قرن ونيّف، إلى البيت الثاني، ليكرّر ما فعله مع البيت الأكبر؛ فأعاد له أيضًا الجزء المستلب من مسروقاته، لقاء غضّ الطرف عمّا آل إلى خزائنه من مسروقات أخرى، هي الأهم كما ذكرنا، بل إنه عمد، من باب النكاية، إلى إعلان بسط ملكيته على أجزاء ملاصقة للبيت الثاني، تحمل اسمه، ليفسد على أهل البيت احتفالاتهم باستعادة مسروقاتهم، غير أن شيئًا من ذلك لم يحدث؛ إذ مرّت النكاية مرور الكرام، واستعاد الفقير المحظوظ حماره، رفقة الطبل والمزمار بالطبع.
وبين "البيتين" الجارين، وفي محاولة من السارق لإسباغ الشرعية على سرقاته، عمد أيضًا إلى استدراج عدد من أصحاب "البيت العتيق"، وأقنعهم بأن يعملوا في خدمته، وكلاء وأجراء، وأن يقفوا حرسًا له على بيتهم المسروق منهم ضدّ أشقائهم من أهل البيت الآخرين، ولا بأس أن يزينوا أكتافهم وصدورهم بالنياشين، وأن يعلنوا أنفسهم رؤساء ووزراء، ويحملوا ألقابًا أطول من بنادقهم المنكفئة، لقاء التخلّي عن فكرة السيادة على ممتلكاتهم، وهو أيضًا ما حدث فعلًا. والأنكى أنهم تجاوزوا مرحلة الحراسة، ليلعبوا دور مخلب القطّ في تنفيذ أوامر اللص، وتكريس لصوصيته على المسروقات التي اغتصبها منهم. والغريب أن الفقير المحظوظ في هذه الحالة، اعتبر أن الحظ كان حليفه، أيضًا، على الرغم من أنه لم يستعد من الحمار ولا حتّى رسنه.
أما الحكاية المفتوحة النهايات على مزيد من عجائب الزمن فتقول إن ثمة بيوتًا أخرى في المنطقة، أبعد قليلًا عن "البيت العتيق"، لم تعد تقف موقف الحياد فقط حيال ما يجري، بل أخذها الإعجاب باللص مبلغ وضعه موضع "المسروق"، ووضع المسروق موضع اللص.. وأما حمير هذه البيوت البعيدة فيقال إنها اختفت، بعد أن أدركت أنها فقدت حظها منذ رافقت هذا الطراز من البشر.
دلالات
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.