10 نوفمبر 2024
اللجوء.. القضية الفرعية
تزايد إيقاع الضجيج الدبلوماسي، وتصاعدت وتيرة الرحلات واللقاءات بين الأطراف المعنية بالحرب السورية، والعنوان العريض إيجاد حل أو تسوية. كان أسبوعاً محموماً وغزيرَ المبادرات التي قدمت حلولاً بوجود الأسد، أو بخروجه، أو بمواقف غامضة تتبنى الفراغ، وتتخذ من البلاغة الدبلوماسية منصة للحل على حساب الطرح الرصين.
لم تُنتج هذه الحركة النشطة لابتكار الحلول أملاً عند السوري الذي قرّر، في لحظة يأس من كل شيء، أن يتأبط ما بقي له، ويمتطي ما تيسر، ويرحل شمالاً معتمداً على "ذمة" البحر الأبيض المتوسط، وتراخي خفر السواحل، ليصل إلى موطئ قدم على الضفة الأخرى، محاولاً بلوغ ألمانيا التي تبدو نقطة نهائية ومفضلة لمعظم المهاجرين.
جاء هذا اليأس الجماعي، بعد أربع سنوات ونصف السنة من الإحباط، فقد فيها السوري إيمانه بكل شيء، بعد حرب طويلة غطت نتائجها، التي تنتمي إلى فئة الكوارث، على كل ما يتم طرحه، والتحضير لفرضه، أو التسويق لتسويته.
كان قرار السوريين الجماعي بالرحيل يشبه قراراً جماعياً مماثلاً، اتخذته شعوبٌ أوروبيِّة، وقعت بلدانها تحت الاحتلال النازي، قبيل منتصف القرن الماضي، فقرّرت بشكل جماعي الرحيل بآلية مشابهة لما توصل إليه السوريون اليوم. كانت رحلة الأوروبيين تبدأ من الدار البيضاء في المغرب، الواقعة تحت سيطرة قوات فرنسا الحرة آنذاك، ثم الطيران إلى البرتغال، الدولة التي لم تكن مشاركة في الحرب، وبعدها السفر بحراً عبر المحيط الأطلسي إلى أميركا، حيث الحرية.
لا تتكرر لحظات القرارات الجماعية كثيراً في التاريخ. لكن، للمرة الثانية في أقل من خمس سنوات، يتخذ السوريون قراراً بشكل جماعي. كان القرار الأول هو الثورة للوصول إلى الحرية. لكن، عندما تكالب كل شيء على هذه الثورة، اتخذ السوريون قرارهم المخضب بطقوس الفزع، والمجلل بالموت، للوصول إلى الحرية أيضاً. لكن، عبر لجة البحر المتوسط والأسلاك الشائكة للحدود الدولية وهراوات الشرطة الغاضبة، وهم يدركون أن الموت برصاص الأمن وأجهزة قمع المظاهرات، وتحت البراميل، ليس أقل ألماً من الموت في المياه الإقليمية، وعلى تخوم الدول.
تحققت نبوءة غسان كنفاني، لكنه أخطأ الرقم عندما وضع في صهريج الموت الحدودي ثلاثة أشخاص، فيما انحشرت، في شاحنة النهاية، إحدى وسبعون جثة، كانت أشبه بلغم انفجر بكل أعراف اللجوء الأوروبية، فغيّر، وبشكل حاد، وجهة نظر أوروبا حيال المهاجر الذي تحوّل، في أعينهم، من شخص مُستغِلٍّ، يحتال على القوانين الرخوة، لينفذ إلى حياة ملؤها الكسل إلى هاربٍ من موت محتم لضفة آمنة تعطيه فرصة حياة جديدة..
ثمنٌ باهظٌ دفعه السوريون على أرضهم، في سبيل حياة أفضل، وها هم يدفعون، وبسخاء، أثماناً إضافية، حتى تحوّلت تضحياتهم إلى "دقيقة صمت" وقفتها الفرق الوطنية، قبل أن تلعب ضربة البداية في مباراة كرة قدم، في وصول متفوق إلى ضمائر الناس. ولكن، بتكلفة باهظة.
اللطمة التي تلقاها العالم في صورة الطفل، الذي يتوسّد أمواج الشاطئ بقلة اكتراث، وكأنه مسيح يفشل في السير على الماء، رسمت لمسألة الهجرة قمّة جديدة، وطريقة تداول مختلفة؛ جعلت زعماء الأحزاب القومية في أوروبا يخجلون من أنفسهم، وأجبرت مشرّعي الهجرة على إعادة النظر بكل القوانين. هذه كلها مسائل مهمة وحاسمة، وتساعد السوري في العبور والاستقرار، لكنها لا تسهم عملياً بحل المشكلة الرئيسية، التي تفرّعت عنها مشكلة اللجوء، وهي الأساس الذي يجب الانطلاق منه، ومحاولة إيجاد طريقة تعامل مختلفة معه.
عملية تحويل مشكلة اللاجئ إلى قضية إنسانية بحتة عملية ناقصة، فالمشكلة ذات شكل سياسي في الأساس، تحدد معالمه سنوات الثورة والتهجير والحرب والتطرف. ومطلوب من المجتمع الدولي أمورٌ عديدة، تفوق تعاطف ألمانيا ودعوات أوروبا لاستيعاب مزيد من اللاجئين، فلدى جموع المهاجرين هذه وطن مهشم، ونظام سياسي تالف، وتحتاج مساعدة لإعادة الحياة إلى وطنها، وبناء نظام سياسي يستوعب الجميع، تماماً كأنظمة البلدان التي يموت السوري في سبيل الوصول إليها.