04 نوفمبر 2024
اللاجئون الفلسطينيون والعقاب الجماعي
طوال 65 عاما، كانت مفردات: أونروا، الوكالة، الإعاشة، الكرت الأزرق، ومرادفاتها، هي الأكثر شيوعاً واستعمالاً في الحياة اليومية للاجئين الفلسطينيين حيثما وجدوا، وكثيرا ما تندّر الفلسطينيون بأنهم ليسوا إخوة في الوطن واللجوء وحسب، بل هم أيضاً إخوة الرضاعة، في إشارة إلى حليب "الإعاشة" الذين اعتادوا شربه في طفولتهم. تخللت "أونروا" وخدماتها نسيجهم الاجتماعي. أكواب الحليب وحبات زيت السمك التي كانت توزع على تلاميذ المدارس، الدورات المهنية المختلفة، طوابير الانتظار تحت أشعة الشمس الحارقة لاستلام المخصصات. وغيرها، أصبحت جزءا من ذاكرة اللجوء.
وباستثناء العراق، التي خرجت مبكرا من مناطق عملياتها، باتفاق مع الحكومة العراقية، استمرت "أونروا" (منظمة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين) منذ إنشائها في 1949، في تقديم خدماتها لنحو خمسة ملايين لاجئ فلسطيني (المسجلون لديها فقط)، في سورية والأردن ولبنان وقطاع غزة والضفة الغربية، اعتماداً على تبرعات طوعية بنسبة 97%. تشمل تلك الخدمات الصحة والتعليم والإغاثة والخدمات الاجتماعية والبُنى التحتية وتحسين المخيمات والقروض الصغيرة.
أقبل اللاجئون بشغف على التعليم، وسيلة متاحة، لتوفير فرص العمل، وحد أدنى من مستوى معيشي ملائم، واستطاعوا أن يندمجوا في المجتمعات المضيفة، بقدر ما أتيح لهم. لم يبقوا عالة على مضيفيهم، وعلى الرغم من حالة الانتظار التي سكنتهم، أسهموا بفاعلية في حركة التحديث والإعمار التي بدت على أشدها في الخمسينيات والستينيات، بفضل كفاءاتهم التعليمية والمهنية. تفاوتت أوضاعهم، بحسب البلد المضيف، فهم إما تمتعوا بحقوق متساوية مع مواطني الدولة المضيفة، ما عدا حق الانتخاب والترشيح، مع سقف للمركز الوظيفي والملكية، وقاموا بواجبات كاملة تقريبا (الحالة السورية)، أو حازوا على حقوق وواجبات متساوية جراء حصول كثيرين منهم على الجنسية (الحالة الأردنية)، على الرغم من إمكانية الحرمان منها في ظروف معينة. وفي لبنان، حرموا طويلاً من ممارسة ما يزيد على 70 مهنة بالقرار 621 لعام 1995 (قلّصت بعد تعديلات في قوانين العمل إلى نحو 22 مهنة)، وصدر قرار في عام 2001 يحرمهم من حق التملك أو توريث البيت الذي يملكونه. واستمرت البوابة الأمنية الطريقة المثلى التي فضلت السلطات اللبنانية التعامل معهم من خلالها. في العراق، لم يوجد مخيمات رسمية، وإنما تجمعات سكنية متفرقة، كانت الأكثر تأثرا بتقلب الأوضاع السياسية والأمنية ومزاجية السلطات العراقية.
وكان على اللاجئ الفلسطيني تحمل عبء مزدوج، مشكلات البلد المضيف الاجتماعية، السياسية والاقتصادية والأمنية، من جهة، وعبء قضيته ونضاله في سبيل التحرير والعودة وتبعات لجوئه، من جهة أخرى. وطالما نظر إلى اللاجئين الفلسطينيين بعين الحذر، بحجة أنهم "مسيسون" أو "حربجيون" أو "حشريون" أكثر مما يلزم. وكانت القيود المفروضة عليهم، وعلى حركتهم، حاضرة في المراكز الحدودية والمطارات ونقاط التفتيش المختلفة.
أُقرّ النظام الأساسي للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة (1950)، واتفاقية جنيف الناظمة لأوضاع اللاجئين (1951)، والاتفاقية الخاصة بأوضاع الأشخاص عديمي الجنسية (1954) وغيرها، كان قاسمها المشترك استبعاد اللاجئين الفلسطينيين، وحرمانهم، بالتالي، من الحماية التي كفلتها هذه المعاهدات والمعايير الدولية للاجئين والأشخاص عديمي الجنسية، الأمر الذي وفر للاحتلال الإسرائيلي، دائما، مساحة أكبر للإجرام الممنهج في حقهم، بل لم يتوان عن استهداف لاجئين تحت سقف منشآت "أونروا". لعبت الولايات المتحدة الدور الأبرز في هذا الاستبعاد، بذرائع مختلفة، أهمها غموض تعريف اللاجئ الفلسطيني الذي رأت فيه مرة، وعلى لسان مندوبها في الأمم المتحدة، أنه "يعادل شيكا على بياض". للأسف، لم يكن مناسبا أيضا لبعض الدول العربية أن تعامل أعداداً متزايدة من الفلسطينيين على أراضيها معاملة خاصة كلاجئين، وتحت مظلة دولية، واكتفت ببروتوكول الدار البيضاء الصادر عن جامعة الدول العربية (1965)، والذي لم تلتزم به معظم الدول العربية.
طرد أكثر من 300 ألف فلسطيني من دول خليجية عقب حرب الخليج الثانية، وبعد قتل وتهجير في العراق، عَلِق مئات منهم في الصحارى الحدودية من دون مأوى، وبعد مساع سياسية من السلطة الفلسطينية، ووساطة من المفوضية السامية لشؤون اللاجئين ومنظمات دولية حقوقية وإنسانية، قبلت دول، كالسودان والبرازيل وتشيلي استقبالهم، ونفي مئات منهم إلى عرض البحر بعد نوبة هيستيريا انتابت معمر القذافي. والآن، يتعرضون لموت يومي في أتون الأزمة السورية، لا سيما في مخيم اليرموك، عجزت "أونروا" عن حمايتهم، حتى من الموت جوعا. وتشكل أزمة سجن كرموز في الإسكندرية، والانفراج الحاصل بشأنها، مثالاً عن الفارق بين لاجئ فلسطيني سقف تمثيله "أونروا"، وشقيق له سوري يتبع، بصفته لاجئا، المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، إذ لم تكن نهاية شبه سعيدة ممكنة بالاعتماد على مساعي "أونروا".
قبل أشهر خلت، بدأت خدمات هذه المنظمة الأممية تتقلص بشكل ملحوظ. ففي رام الله، أوقفت التوظيف والتحويلات الطبية إلى المستشفيات، واكتظت الصفوف بالتلاميذ في مدارسها حتى خمسين طالبا. وفي غزة، قطعت المساعدات المالية للسلسلة الغذائية، وألغت أقسام صحية في عياداتها، وعطّلت العمل ببرنامج مسح الفقر، ولا زال مشروع إعادة الإعمار متعثراً. في سورية، تم تقليص وتيرة المعونة المالية وحجمها، واشترطت "أونروا" الحضور الشخصي لمن بلغ الثامنة عشرة لاستلام المخصصات المالية، تجنبا لدفع أموال لأشخاص سافروا أو تغيبوا لأسباب أخرى، كما تم إيقاف التعويضات الممنوحة للسكن لمن غادر منهم إلى لبنان، هناك حيث لا زال ألوف من لاجئي مخيم نهر البارد ينتظرون إعادة الإعمار في مساكنهم المؤقتة. وأخيراً، عزا المفوض العام لأونروا، بيير كرينبول، ذلك إلى عجز مالي، هو الأسوأ في ميزانية المنظمة يقدر بـ 106 مليون دولار، ورأى أن تفاقم أوضاع اللاجئين الفلسطينيين نتيجة ذلك سوف يحولهم إلى "قنابل موقوتة"، تهدد منطقة الشرق الأوسط، ودعا الدول المانحة لتحمل مسؤولياتها.
منذ انتهاء حرب الخليج الثانية، بدأت خدمات "أونروا" تتقلص بشكل ممنهج، تزامناً مع انطلاق العلمية التفاوضية في مدريد، حينها (1992) أعلن رئيس وزراء إسرائيل، إسحق شامير، أن الحديث عن حق عودة للفلسطينيين "كلام فارغ"، فلا يوجد إلا "حق اليهود في العودة إلى أرض إسرائيل". كان ينبغي الضغط على الفلسطينيين في المستويين الرسمي والشعبي لتقديم تنازلات.
صحيح أن تجريد أي إنسان من أبسط حقوقه، ومحاولة تركيعه وإذلاله، عبر سلبه الحد الأدنى من مقومات العيش بكرامة، قد تؤدي إلى تجريده من إنسانيته، وتحويله إلى قنبلة موقوتة. وطبعاً، لا يحتاج الشرق الأوسط إلى مزيد من القنابل، طالما يعج بما تفجر منها، ما يزيد من حجم المسؤوليات تجاه اللاجئين الفلسطينيين. لكن، لا يكفي تحميل الدول المانحة المسؤولية عن تبعات تقصيرها، بل يجب إدانة هذا التقاعس المتعمد والممنهج، الذي هو فعليا، عقاب جماعي، يمارس بحق الفلسطينيين، يستهدف حقهم في العودة واستبداله بالتعويض، وعبر إذلالهم وتركيعهم ودفع من بقي منهم الى المنافي البعيدة، والمستفيد الأول هنا هو الاحتلال الإسرائيلي، المسؤول المباشر عن جريمة لجوئهم. وبالإضافة إلى مسؤولية الدول العظمى عن نشأة هذا الكيان الاستيطاني، فإن "أونروا" وخدماتها ليست هبة من المجتمع الدولي، بل حق مكتسب للشعب الفلسطيني، والتزام قانوني وأخلاقي تجاههم، باق حتى انتهاء آخر حالة لجوء فلسطينية.
أقبل اللاجئون بشغف على التعليم، وسيلة متاحة، لتوفير فرص العمل، وحد أدنى من مستوى معيشي ملائم، واستطاعوا أن يندمجوا في المجتمعات المضيفة، بقدر ما أتيح لهم. لم يبقوا عالة على مضيفيهم، وعلى الرغم من حالة الانتظار التي سكنتهم، أسهموا بفاعلية في حركة التحديث والإعمار التي بدت على أشدها في الخمسينيات والستينيات، بفضل كفاءاتهم التعليمية والمهنية. تفاوتت أوضاعهم، بحسب البلد المضيف، فهم إما تمتعوا بحقوق متساوية مع مواطني الدولة المضيفة، ما عدا حق الانتخاب والترشيح، مع سقف للمركز الوظيفي والملكية، وقاموا بواجبات كاملة تقريبا (الحالة السورية)، أو حازوا على حقوق وواجبات متساوية جراء حصول كثيرين منهم على الجنسية (الحالة الأردنية)، على الرغم من إمكانية الحرمان منها في ظروف معينة. وفي لبنان، حرموا طويلاً من ممارسة ما يزيد على 70 مهنة بالقرار 621 لعام 1995 (قلّصت بعد تعديلات في قوانين العمل إلى نحو 22 مهنة)، وصدر قرار في عام 2001 يحرمهم من حق التملك أو توريث البيت الذي يملكونه. واستمرت البوابة الأمنية الطريقة المثلى التي فضلت السلطات اللبنانية التعامل معهم من خلالها. في العراق، لم يوجد مخيمات رسمية، وإنما تجمعات سكنية متفرقة، كانت الأكثر تأثرا بتقلب الأوضاع السياسية والأمنية ومزاجية السلطات العراقية.
وكان على اللاجئ الفلسطيني تحمل عبء مزدوج، مشكلات البلد المضيف الاجتماعية، السياسية والاقتصادية والأمنية، من جهة، وعبء قضيته ونضاله في سبيل التحرير والعودة وتبعات لجوئه، من جهة أخرى. وطالما نظر إلى اللاجئين الفلسطينيين بعين الحذر، بحجة أنهم "مسيسون" أو "حربجيون" أو "حشريون" أكثر مما يلزم. وكانت القيود المفروضة عليهم، وعلى حركتهم، حاضرة في المراكز الحدودية والمطارات ونقاط التفتيش المختلفة.
أُقرّ النظام الأساسي للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة (1950)، واتفاقية جنيف الناظمة لأوضاع اللاجئين (1951)، والاتفاقية الخاصة بأوضاع الأشخاص عديمي الجنسية (1954) وغيرها، كان قاسمها المشترك استبعاد اللاجئين الفلسطينيين، وحرمانهم، بالتالي، من الحماية التي كفلتها هذه المعاهدات والمعايير الدولية للاجئين والأشخاص عديمي الجنسية، الأمر الذي وفر للاحتلال الإسرائيلي، دائما، مساحة أكبر للإجرام الممنهج في حقهم، بل لم يتوان عن استهداف لاجئين تحت سقف منشآت "أونروا". لعبت الولايات المتحدة الدور الأبرز في هذا الاستبعاد، بذرائع مختلفة، أهمها غموض تعريف اللاجئ الفلسطيني الذي رأت فيه مرة، وعلى لسان مندوبها في الأمم المتحدة، أنه "يعادل شيكا على بياض". للأسف، لم يكن مناسبا أيضا لبعض الدول العربية أن تعامل أعداداً متزايدة من الفلسطينيين على أراضيها معاملة خاصة كلاجئين، وتحت مظلة دولية، واكتفت ببروتوكول الدار البيضاء الصادر عن جامعة الدول العربية (1965)، والذي لم تلتزم به معظم الدول العربية.
طرد أكثر من 300 ألف فلسطيني من دول خليجية عقب حرب الخليج الثانية، وبعد قتل وتهجير في العراق، عَلِق مئات منهم في الصحارى الحدودية من دون مأوى، وبعد مساع سياسية من السلطة الفلسطينية، ووساطة من المفوضية السامية لشؤون اللاجئين ومنظمات دولية حقوقية وإنسانية، قبلت دول، كالسودان والبرازيل وتشيلي استقبالهم، ونفي مئات منهم إلى عرض البحر بعد نوبة هيستيريا انتابت معمر القذافي. والآن، يتعرضون لموت يومي في أتون الأزمة السورية، لا سيما في مخيم اليرموك، عجزت "أونروا" عن حمايتهم، حتى من الموت جوعا. وتشكل أزمة سجن كرموز في الإسكندرية، والانفراج الحاصل بشأنها، مثالاً عن الفارق بين لاجئ فلسطيني سقف تمثيله "أونروا"، وشقيق له سوري يتبع، بصفته لاجئا، المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، إذ لم تكن نهاية شبه سعيدة ممكنة بالاعتماد على مساعي "أونروا".
قبل أشهر خلت، بدأت خدمات هذه المنظمة الأممية تتقلص بشكل ملحوظ. ففي رام الله، أوقفت التوظيف والتحويلات الطبية إلى المستشفيات، واكتظت الصفوف بالتلاميذ في مدارسها حتى خمسين طالبا. وفي غزة، قطعت المساعدات المالية للسلسلة الغذائية، وألغت أقسام صحية في عياداتها، وعطّلت العمل ببرنامج مسح الفقر، ولا زال مشروع إعادة الإعمار متعثراً. في سورية، تم تقليص وتيرة المعونة المالية وحجمها، واشترطت "أونروا" الحضور الشخصي لمن بلغ الثامنة عشرة لاستلام المخصصات المالية، تجنبا لدفع أموال لأشخاص سافروا أو تغيبوا لأسباب أخرى، كما تم إيقاف التعويضات الممنوحة للسكن لمن غادر منهم إلى لبنان، هناك حيث لا زال ألوف من لاجئي مخيم نهر البارد ينتظرون إعادة الإعمار في مساكنهم المؤقتة. وأخيراً، عزا المفوض العام لأونروا، بيير كرينبول، ذلك إلى عجز مالي، هو الأسوأ في ميزانية المنظمة يقدر بـ 106 مليون دولار، ورأى أن تفاقم أوضاع اللاجئين الفلسطينيين نتيجة ذلك سوف يحولهم إلى "قنابل موقوتة"، تهدد منطقة الشرق الأوسط، ودعا الدول المانحة لتحمل مسؤولياتها.
منذ انتهاء حرب الخليج الثانية، بدأت خدمات "أونروا" تتقلص بشكل ممنهج، تزامناً مع انطلاق العلمية التفاوضية في مدريد، حينها (1992) أعلن رئيس وزراء إسرائيل، إسحق شامير، أن الحديث عن حق عودة للفلسطينيين "كلام فارغ"، فلا يوجد إلا "حق اليهود في العودة إلى أرض إسرائيل". كان ينبغي الضغط على الفلسطينيين في المستويين الرسمي والشعبي لتقديم تنازلات.
صحيح أن تجريد أي إنسان من أبسط حقوقه، ومحاولة تركيعه وإذلاله، عبر سلبه الحد الأدنى من مقومات العيش بكرامة، قد تؤدي إلى تجريده من إنسانيته، وتحويله إلى قنبلة موقوتة. وطبعاً، لا يحتاج الشرق الأوسط إلى مزيد من القنابل، طالما يعج بما تفجر منها، ما يزيد من حجم المسؤوليات تجاه اللاجئين الفلسطينيين. لكن، لا يكفي تحميل الدول المانحة المسؤولية عن تبعات تقصيرها، بل يجب إدانة هذا التقاعس المتعمد والممنهج، الذي هو فعليا، عقاب جماعي، يمارس بحق الفلسطينيين، يستهدف حقهم في العودة واستبداله بالتعويض، وعبر إذلالهم وتركيعهم ودفع من بقي منهم الى المنافي البعيدة، والمستفيد الأول هنا هو الاحتلال الإسرائيلي، المسؤول المباشر عن جريمة لجوئهم. وبالإضافة إلى مسؤولية الدول العظمى عن نشأة هذا الكيان الاستيطاني، فإن "أونروا" وخدماتها ليست هبة من المجتمع الدولي، بل حق مكتسب للشعب الفلسطيني، والتزام قانوني وأخلاقي تجاههم، باق حتى انتهاء آخر حالة لجوء فلسطينية.