الكنز المفقود

30 يونيو 2014
+ الخط -
 

كَثُرَ في الآونة الأخيرة (وهي آونةٌ ممتدّةٌ يصعب حصرها بين تاريخين) بحثُ الناسِ عن رجاء، أو معجزة. وللرجاء أسباب عديدة: المريض يرجو الشفاء. الجائع يرجو الشبع. الفقير يرجو الغنى. الغني يرجو أن يكون أكثر غنى. الصغير يرجو أن يكبر. الكبير يرجو (بلا أمل يذكر) أن يصغر. ليس للرجاء مرجع أو قاعدة ثابتتان. ولكن، كلٌّ يرجو، على الأغلب، إلهه، مطلقه، شفيعه. لأنَّ هذا في أصل الرجاء نفسه، وإن انصرف، في أزمنة البشر الصعبة، إلى ذوي الجاه والسلطان. لكنَّ هذا لا يحسب رجاء. يمكن أن نسميه تزلّفاً، تذلّلاً. تمشيةً للحال. لأنَّ الأول يصدر من القلب والأحشاء والثاني من الحنجرة واللسان.

لهذا صرنا نرى أنواعاً شتى من الدُرْجَات (= تقليعات) "الروحية". تصوّف، زنّ. بوذية. طاقة كونية. هذا عدا، طبعاً، العودة الكاسحة إلى الدين بوصفه المرجع الأقدم للرجاء "المضمون". حتى على صعيد الأدب، رأينا الدُرْجَة السحرية، الفنتاستيكية إلخ.. تسود، بقوة، في فترة ماضية، ولا أظن أنها ستزول تماماً. فعندما تكفُّ الحياة عن أن تكون لغزاً، سرَّاً، حيرةَ، يختفي هذا الأدب من الوجود... وهذا لن يحدث.

**

متى بدأت دُرْجَة البحث عن الذات، وتحقيق الرضا الذاتي، داخل الذات وليس خارجها؟ أي الانخلاع من السيرورات الاجتماعية التي تصنع، عادة، الذات المتعينة في التاريخ، أو الذات التاريخية، ومسعاها للتحقق على الصعد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؟

سأقول من دون بيّنة إنها بدأت مع رواية "الخيميائي" لباولو كويللو، حيث صار الأدب يقرأ لغرض غير أدبيّ، وأبعد من مجرد التسلية وقتل الوقت. لكن الأصل، والجذر الأبعد، لهذا الفنتاستيكي والواقعي السحري هو كنز الكنوز: ألف ليلة وليلة، من دون أن يصل الفرع، هنا، إلى جزء بسيط مما هو عليه الأصل من تركيبٍ وبناءٍ وحيل سردية.

لا سبب عندي لانتشار "الخيميائي"، الساذجة على مستوى الفن الروائي، واكتساحها حواجزَ اللغات والجغرافيا والثقافات إلا حاجة الناس، في أزمنة الواقع اللاهث، القاتم، الآليّ، إلى رجاء. إلى معجزات. وها هي كتابة بسيطة، مباشرة، تنهل من فنتازيات ألف ليلة وليلة، تحقق المعجزات بين دفتيّ كتاب!

***

تذكرون حكاية الراعي الأندلسي (!) سنتياغو الذي حلم ذات مرة، وهو نائم تحت شجرة في بيته، بكنز مدفون بالقرب من الأهرامات المصرية، فقرر البحث عنه. تواجهه، في مسعاه هذا، صعاب واستحالات، غير أن الراعي الأندلسي يواصل طريقه، إلى أن يصل إلى المكان الذي يفترض أن يكون الكنز مدفوناً فيه. يصادف عصابة هناك، فتأمره بالحفر فلا يجد شيئاً. يبقي زعيم العصابة على حياة الراعي الأندلسي، ويقول له ساخراً: لقد حلمت بكنز في المكان الفلاني، ولكني لست ساذجاً كي أقطع البحر بحثاً عنه كنزٍ في حلم. المكان الذي وصفه زعيم عصابة اللصوص كان، بالضبط، مكان سنتياغو نفسه!

سيتذكَّرُ من قرأ قصصاً للكاتب الأرجنتيني العظيم، بورخيس، قصته القصيرة جداً "حكاية الحالمين" التي تتحدث عن تاجر مصريّ رأى في الحلم رجلاً يُخْرجُ من فمه قطعة نقد ذهبي، ويقول له: كنزك موجود في أصفهان، بفارس، فاذهبْ للبحث عنه. فيذهب. تحدث سرقة وجلبة في أقرب مكان من كنزه الموعود في أصفهان، فتأتي الشرطة وتعتقله مع آخرين. ولكن، سرعان ما يكتشف المحقق الفارسي أن الرجل لا علاقة له بما حدث، بل إنه ليس من فارس أصلاً. فيسأله: ما الذي جاء بك الى أصفهان؟ يقرر التاجر المصري أن يقول الحقيقة. وما أن يفرغ من سرد حكايته على المحقق، حتى يشرع الأخير بالضحك إلى أن "تبرز أضراس عقله"... ثم يقول له ما معناه: يا مغفل، لقد حلمت أنا بكنز مدفون في بيت بالقاهرة، له حديقة فيها ساعة شمسية، وراء الساعة الشمسية شجرة تين، وراء شجرة التين عين ماء.. وتحت عين الماء الكنز!

عاد التاجر المصري إلى بلاده، على جناح الطير، ليذهب، مباشرة، إلى عين الماء في بيته ويحفر، فيجد الكنز الدفين!

رواية باولو كويللو مختطفة، بالكامل، من قصة بورخيس القصيرة مع الكثير من البهارات والتطويلات التي حولتها إلى رواية "بست سيلر".

نذكِّر، هنا، أن بورخيس ينهي قصته كالتالي: "عاد الرجل (التاجر المصري) إلى وطنه. ومن تحت عين الماء في حديقته (التي حلم بها المحقق) ويخرج الكنز. هكذا باركه الله وأجزاه وأثنى عليه، إنَّ الله كريم، لا تدركه الأبصار".

(من كتاب "ألف ليلة وليلة"، الليلة 351)!!

E7B23353-660D-472F-8CF3-11E46785FF04
أمجد ناصر

شاعر وكاتب وصحفي من الأردن