الكساة العراة والسترات الصفراء... في سيميائية اللون والثوب

13 ديسمبر 2018
+ الخط -

الأصفر العربي

إنه لون الشحوب عندنا، حالة من اللا لون ينعت بها من فقد القوة بفقدان الدم، لون خواء الوفاض الذي يرادف الزرقة في ثقافتنا المغربية التي تصف به التلميذ الكسول الذي لم يحصل شيئا من درس من المدرس في المدرسة، لون الموت وهو في هذا السياق درجة من فقدان اللون قبل ازرقاق الجثة وانتفاخها وتعفنها ودخولها حالة التحلل.

قد تكون الثقافة العربية، في ماضيها وحاضرها، هي الثقافة الوحيدة في العالم التي ترادف اللون الأصفر بألوان أخرى: كانت العرب القديمة تصف الإبل السود بالصفر وتعرف الصفرة على أنها سواد، ومنه المرارة (الصفراء) وبوصفير في المغربية أو داء الصفر وهو داء يصفر منه الوجه وهو كذلك مرادف الجوع .. ومن نفس الجذر اشتق "الصفر"، الرقم العربي..

هذا شيء من تاريخ لوننا، هذا أصفرنا الذي لا يخيف لا الحاكم ولا المشغل لأن جسدا أصفر هو جسد شاحب قتلته المرارة واحترق دمه سيزرق بالبرد وما أن ترتفع درجة الحرارة حتى ينتفخ ويتعفن وتتخلص منه الطبيعة بفضل حكمة وإصرار وصمت الدود. وعندما يعود إلى التراب، آنذاك يغلق ملفه بالصفر.

الأصفر الفرنسي
لكن ما الذي يرعد فرائص الحاكم العربي من حركة احتجاجية شعبية غير عربية انفجرت فوق تراب دولة يفصل بينها وبين بلاده الجغرافيا والتاريخ والثقافة وأشياء أخرى يتشح المشاركون فيها بصدريات صفراء خفيفة لا تكسي أجسادهم ولا تقيهم زمهرير الشتاء الأوروبي؟


قد يكون أقام مسافة نقدية بينه وبين الموضوع على المنهجية الكانطية وشاهد وسمع وحلل وقدر ثم نظر في الأمر فوجد أن عالمه وعالم جيرانه اتحد في الزمن والقدر وأن العناصر بألوانها وخصائصها صارت كونية، وأن الصفرة معدية بالقوة وبالتالي فما كان جسدا شاحبا ما يلبث أن يحيى إن هو شاهد باريس تجدد عهدها بالثورة وتكسر شوكة السلطة والجبروت، وسوف يشاهد ذلك وعلى مدار الساعة وكأنه هناك وسيسب نفسه وجبنه وقلة حيلته وهوانه وهو يفر من مشاهد تخزيه.

ثم إن الأصفر ليس كالأصفر، فصفرتهم ليست مرادفا للسواد أو للزرقة أو درجة على سلم الألوان بين البرتقالي والأخضر.. الأصفر الفرنسي الذي نشاهده في أيامنا هذه مشع والإشعاع خاصية العناصر التي تمتص الضوء وتعكسه في شكل أشعة تتجاوز موجاتها حجم الضوء الأول.. أو هكذا يقول معجمهم.

أما الصدرية التي يتشح بها الشارع الفرنسي في برد هذا الشتاء فليس لها من السترة إلا الاسم بل هي عكس ذلك، قطعة قماش من البوليسيتر صفراء مشعة تفرض على عمال الأوراش والموانئ في إطار إجراءات السلامة المكتسي بها عار، لا يساوي أكثر من علامة بصرية ترى من بعيد تميزه عن غيره من الأجساد المتحركة كجسد لا غير وتسمح بتتبع حركته من بعيد، مثلها مثل البدلة العسكرية والرقم التسلسلي، عنوان للنظام والانضباط والمساواة ولإلغاء التمييز الاجتماعي لكنها تلغي كذلك "أنا" الإنسان وشخصية الفرد وتجرده من ذاته لتحوله إلى عنصر مادي مثل غيره من العناصر وسط المنظر العام، شيء مثل الأشياء..

الصدرية الصفراء المشعة، أخت البدلة الأنيقة لموظفي الشركات والأبناك والإدارات المالية، سليلة بدلة عمال المناجم ورثت عنها جينات القهر والظلام واليأس والعبودية القانونية الناعمة وشهدت على تحويل العمل من قيمة بناء إلى جبر وإكراه واستلاب جعلت العامل الحديث يفرح بيوم الجمعة ويكتئب ليلة الاثنين، وهي بهذه الصفة نزلت إلى طرقات البلدات الفرنسية الصغيرة التي كانت أول من صرخ بالأصفر المشع الغاضب لتشهد هذه المرة على حيوية الشارع والشعب وعلى الموت السريري للنخبة السياسية التي اختارت طوعا الموت الرحيم بالتبرع بأعضائها للرأسمال.

هذا أكثر شيء يخيف ويرعب الحاكم العربي إياه، لأنه جرب حيوية الشعب والثقافة الشعبية في الاحتجاج التي تتجاوز مجرد الغضب إلى مستوى وجودي من الاستيتيقا في التعبير عن الغضب، فتجده يأمر بمنع السترات الصفراء ويجيش إعلامه وذبابه ليحمل رسائل التخويف على لسان التجار الغاضبين من الغاضبين ويقول الشرطة الفرنسية ما لم تقله ويعلق على مخاض الشارع الأوربي بمفردات المؤامرة العربية التي تكاد لا تجد مقابلا لها في لغة المعنيين المباشرين بأمرهم، إذ يفرقون بين السترات الصفراء والمندسين والمتطفلين والمخربين..

لكن هذا الحاكم غلبه طبعه الغبي على محاولة تطبعه بالفكر والنقد، لأنه لا يعلم أن سياسته مهما بلغت درجات تبعيتها وتماهيها مع سياسات المانحين والممولين والراشين والآمرين، مازالت تفصله قرون ضوئية عن اليوم الذي سيخلق في مجتمعه طبقة عمالية أو بروليتاريا أو مجتمعا يستلبه العمل والإنتاج بدرجة من النظام والانضباط تجعله ينتفض في وجهه، إلا إذا كان يعتبر عساكره من أولاء، ويجهل أن الشارع عندما ينفجر لا يحمل رايات وألوان جيرانه مهما بلغت درجة إعجابه وتأثره بها، وأن قدرة محلليه وجيوشه الافتراضية على التوقع والاستباق والتعبئة ضعيفة وأن لا تستطيع حتى تعبئة نفسها ضد الموجة عندما يرتفع مد لون الشارع وإشعاعه.

8A58CB61-B98F-4580-BA32-91BD89846540
رشيد فضيل

مترجم مغربي.. دارس للأدب، وباحث في الترجمة، ومدون في مجالات متعددة.