الكراهية وهجوم نيوزيلندا

25 مارس 2019
+ الخط -
خمسون قتيلاً، أعداد أكبر من الجرحى، القتلى من قومياتٍ متعددة. صوّر القاتل مجزرته، وكأنها لعبة كمبيوتر، لم يهتم لما يفعله، مارس رغبته باصطياد الناس، داخل المسجد وخارجه. القاتل بذلك، يقول إنه لا يشعر إزاء القتلى/ الفرائس بأية عاطفة. ووفق ما نُقل عنه أنه يرفض سياسات حكومته، وسياسات الغرب المنفتحة إزاء المهاجرين، وتحديداً المسلمين، القادمين لتدمير حضارته المسيحية البيضاء. تقتضي الدقة القول إن قتلاً كهذا، وبدماء باردة، وربما بمتعةٍ سادية، ومن رجل واعٍ وليس مختلاً، أن المجتمعات الأوروبية وغير الأوروبية تتبنى كثيراً من مقولات الكراهية ورفض الآخر "المختلف دينياً، عرقياً، جنسياً، عمريًا".
هذا العالم الذي شَهِدَ مجازر كبرى في سورية واليمن وليبيا، ولم يتحرّك، ولم تتوقف بعد، هو نفسه الذي يمدُّ الكراهية بكل أشكال الانفعال والمتعة والإرادة، ومن أجل مزيد من القتل. وبعد كل ما قلته، ألم تعرض مشاهد القتل الداعشي السينمائية في كل أنحاء العالم، ألم يرتبط ذلك القتل بالدين الإسلامي؟ هنا مسؤولية كبرى، على الدول التي سمحت بوجود تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وهي ليست بالتأكيد فقط النظام السوري والعراقي والإيراني والتركي والمنظمات الجهادية والسلفية، وهل يمكن لغير الغبي تجاهل دور الدواعش الأجانب، القادمين 
من روسيا والغرب بأكمله؛ الذين نقلوا بطائرات بلادهم وبمراقبة أجهزة استخباراتها إلى تركيا ومن ثم سورية؟ وعدا عن ذلك كله، وقبله، هناك التسييس الكبير لمفهومي الهوية والتعددية الدينية، ما يتعارض مع مفهوم المواطنة والتعددية السياسية. تسييس الهويات يحفر في تربة المجتمع، ويُورث كل أشكال الكراهية للآخر. هذه سياسات العولمة، وقد أدخلت العالم في أزماتٍ كبرى، وليس من حل لديها لها؛ فبعد نهب العالم وإفساده، وتسليع كل شيء، الوقت الآن لتفكيكه! ودفعه إلى مختلف أشكال الحروب الهمجية "دينية، عنصرية، عشائرية، قومية، عالمية". العولمة من الناحية الاقتصادية، لا تُختصَر بالشركات الكبرى، بل وتتضمن كل أشكال العلاقات الاقتصادية العالمية، وبالتالي كل الأنظمة والشركات التي تبنّت السياسات الليبرالية الجديدة، في بلادنا والغرب، تنطوي ضمنها.
العالم متأزّم اقتصادياً، ومتراجع من ناحية الحريات والديموقراطية، ومتقدم يمينياً. هذه العناصر المتلازمة هي ما تسمح بمجزرة الأسترالي اليميني في نيوزيلندا. ولم تترك رئيسة حكومة هذا البلد المجزرة تمرُّ كيفما كان. أطلقت رصاصاتها ضد سياسات اليمين والقتل والكراهية. رفضت ذكر اسم القاتل، ارتدت الحجاب للتعزية، أعلنت عن أذانٍ في كل وسائل الإعلام، وكانت جنازة وطنية، ودعت كل الراغبين من زعماء عالميين للمشاركة. ما فعلته هذه السيدة، من رفضٍ لكل أشكال الكراهية لن يوقف بالتأكيد سياسات الهوية، ولكنه يسلط الأضواء على خطورة الهوّة التي أوصلتنا إليها سياسات الهوية والتمييز بين أفراد الشعب وجماعاته. هناك وجه آخر للمجتمع، هو أن العالم يُسيس الأديان والقوميات، ويتمُّ ذلك باسم مزيدٍ من الحريات، والتعبير عن الطبيعة الحقيقية للبشر! وضرورة أن تشمل الديموقراطية والتعدّدية مفهوم الحريات الدينية. مجزرة نيوزيلندا، وسواها، وما يحدث من تقدّم لليمين الديني والقومي الأوروبي والأميركي والإسلامي، وحروب الكراهية، تؤكّد ضرورة التمييز الحاد بين الإيمان والحق به وبممارسة شعائره من جهة، وخطورة تسييس الأديان، وضرورة حظر كل أشكال التمييز الديني والقومي والجنسي، من جهة أخرى، وعكس ذلك إفساح المجال واسعاً لكل أشكال المعرفة والعلم والثقافة.
عالمنا العربي، لا سيما إعلامه ووسائل تواصله الاجتماعي، مليء بكل أشكال التمييز الديني والقومي والجنسي. الإعلام هذا محكومٌ من أنظمة ومنظمات تموله، وهذا يؤجّج التطرف والإرهاب بكل أشكاله، ويضع جبالاً بين المختلفين دينياً وقومياً وجنسياً. ما فعله الأسترالي فعله المتطرّفون في بلادنا العربية والإسلامية، وسيتكرّر حدوثه لا محالة. مصدر تغذية الكراهية مهيمنٌ على الإعلام، وبالتالي لن تتوقف مجازر الكراهية قريباً، وكل محاولات سيدة نيوزيلندا، وما ستقوم به، من تحجيم لحمل السلاح، والتأكيد على ضرورة التعايش "المسيحي الإسلامي" وسواها، لن يفيد في إيقاف سياسات الهوية، ثم الكراهية.
النقاشات التي ملأت عالمنا العربي عن ضرورة فصل الدعوي عن السياسي، وكارثة سياسات الطائفية، وأن الدولة المدنية هي نفسها الدولة العلمانية، وأن الدستور يجب أن يكون وضعياً، أقول إن هذه الأفكار لم يُبت فيها بعد، وما زالت مرفوضة لدى الأغلبية، أي أنهم يرفضون الانتقال إلى دولةٍ حديثة، وكل الأفراد فيها متساوون. الرفض السابق يورث أن الوعي الصحيح
 هو الوعي الديني، وأن الوعي الحداثي خاطئ؛ هذا الشكل من التفكير يكمل سياسات الهوية في الغرب، وانبعاث التمييز مجدداً، ويتجه بالبشرية المفقرة والمهمشة نحو حروب هوياتٍ ما قبل حديثة. لن أتكلم عن قضية دعم الكيان الصهيوني، والصمت عن جرائم هذا الكيان، وتأسيسه على أرضٍ عربية، ولا عن دوره في تسييس الأديان المشرقية "اليهودية، والمسيحية، والإسلام" وتسييس المذاهب والطوائف في هذه الأديان نفسها. وكذلك لن نتكلم عن دور السعودية في نشر السلفية والعقلية الجهادية عقوداً طويلة، وكذلك ما فعله آيات الله في إيران ومنذ 1979، وفي الدول العربية، وبالتحالف مع الأميركيين، وبدءاً من غزو أفغانستان 2001 ومن ثم العراق، وما نتج عن ذلك من كوارث وأهوال وتطييف وجهادية.
هذه حلقات مترابطة، لا يمكن الفصل بينها؛ ومجزرة الأسترالي حادثة ضمن حلقة كبرى من سياسات فشل العولمة، وانبعاث اليمين وتسييس الهويات، والحروب الأميركية والأوروبية، وضمن ذلك من الخطأ نسيان الحروب التي تمّت في يوغسلافيا، والمجازر التي تمّت على أساس الهوية في هذا البلد.
فعل المهاجرون إلى أوروبا ذلك، لأن أنظمة بلادهم القمعية النهّابة، مدعومة من ذلك الغرب نفسه، والأخير هو من يحكم العالم، ومنذ بداية نشوء النظام الرأسمالي، قبل قرون، وهو من يصيغ العالم على صورته. عكس ذلك، كل مفاهيم المواطنة والحريات والمساواة والعدالة الاجتماعية والتساوي بين الشعوب والجنسين وردم هوة التخلف والتأخر، يتم تجاهلها كما ذكرت، عبر سياسات العولمة في نهب العالم وإغراقه بسياسات الهوية والحروب. في النهاية، ما فعلته رئيسة وزراء نيوزيلندا، تُرفع له القبعات، ولكن ذلك سيُطوى سريعاً. ويرتبط إنهاء ذلك كله بمزيد من الحريات وحظر سياسات الهويات الدينية والقومية العنصرية، وإعلاء مفاهيم المواطنة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والحريات العامة، وبعد ذلك احتكار أدوات العنف من الدول.