03 اغسطس 2022
الكباش الإيراني السعودي عندما يطيح الحريري
سجل لبنان سابقة بين الدول بإعلان رئيس الحكومة استقالته من خارج البلاد، فقد أعلن سعد الحريري استقالة حكومته من السعودية التي وصل إليها قبل أيام، وعلى الأرجح أنه سوف يبقى هناك فترة. وباستقالته ينفرط عقد الحكومة، وسيبقى لبنان فترة طويلة من دون سلطة تدير سياسة البلاد، وتسهر على شؤون المواطنين. فاجأت الاستقالة الجميع، ولم يكن أحد يتوقع حصولها، حتى قبل ساعات من أن يعلنها الحريري صباح السبت الماضي. ولا حتى أقرب المقربين، إذ تفيد أجندته الشخصية تسجيل أكثر من موعد له مع عدد من الشخصيات ورجال الأعمال ليوم الاثنين الذي يلي الاستقالة. لبنان مقبل بالتالي على أزمة حكم طويلة، ومجهولة الأبعاد. فلماذا استقال الحريري، وهل فعل ذلك بقرار ذاتي؟ ولماذا من السعودية وليس من لبنان؟ وهل خضع لضغوط أو ابتزاز ما؟
هزّت الاستقالة لبنان، وأربكت الخصوم قبل الحلفاء، فهو عاد إلى رئاسة الحكومة قبل أقل من سنة، بعد فراغ في موقع رئاسة الجمهورية دام نحو سنتين ونصف السنة، وعلى إثر كباش يومها بين فريقي الصراع، تحالف قوى 14 آذار الذي تحلل، وكان يدعم سمير جعجع للرئاسة، وفريق 8 آذار الذي ما زال على قيد الحياة، وكان يتمسك بانتخاب ميشال عون. وإذ بالأوراق تختلط بـ "قدرة قادر"، ويقرّر الحريري، بنتيجة صفقة تم التوصل إليها بين الطرفين، دعم عون للرئاسة في مقابل عودته إلى القصر الحكومي، والتفاهم على مجموعة مشاريع وصفقات يتقاسمها الطرفان. وحظي الاتفاق بدعم حزب الله ومباركته، وكان الحزب يرى في عودة
الحريري إلى الحكومة تغطية سنية يحتاجها لبنانياً، ورسالة إيجابية من إيران باتجاه دول الخليج عربياً. خصوصاً وأن حزب الله كان هو من أسقط حكومة الحريري الأولى في نهاية عام 2010، فيما هو يهم بدخول البيت الأبيض للاجتماع مع الرئيس السابق باراك اوباما. ودعم أيضاً حزب القوات اللبنانية انتخاب عون، وشارك في حكومة الحريري. فقط رئيس مجلس النواب ورئيس حركة أمل نبيه بري لم ينضم الى الاتفاق، رافضاً انتخاب عون رئيساً للجمهورية. وكذلك فعل حزب الكتائب وبعض المستقلين.
عندها باركت السعودية الاتفاق، مراهنة على جدية ما نقل إليها أن عون سيبتعد عن سياسة التقارب مع حزب الله والمحور الإيراني- السوري، وسيكون رئيساً توافقياً على الصعيد الداخلي وحيادياً على الصعيد الإقليمي. وأوفد الملك سلمان أمير مكة إلى بيروت للتهنئة، واستقبل عون، في أول زيارة رسمية له، إلى الخارج. وقامت هذه الحكومة على تعاون الثنائي الحريري - جبران باسيل الذي يرأس "التيار الوطني الحر"، وكان وزيراً للخارجية. وعمل الخصمان السابقان بتناغم وتضامن لإقرار مشاريع عديدة، وتمرير عدد من الصفقات في قطاع الكهرباء والنفط والاتصالات وغيرها. وخاضا معركة إقرار قانون انتخابي جديد، حاولا تفصيله على قياسهما، عبر اعتماد مبدأ التمثيل النسبي. وبقي الخلاف قائماً حول بعض المواقف من الوضع الإقليمي، وخصوصاً تجاه الأزمة السورية، فتقرّر التزام مبدأ "النأي بالنفس" وعدم الانحياز إلى جانب هذا المحور أو ذاك. إلى أن انفجرت أزمة النزوح السوري بشكل كبير وخطير، بعد أن بلغ عدد النازحين نحو مليون ونصف مليون، عندها حاول فريق حزب الله وحلفاؤه توظيف هذه المشكلة من أجل إعادة فتح الحوار وخطوط التواصل مع النظام السوري. واستعر الخلاف والسجال، عندما بادر باسيل إلى الاجتماع بوزير خارجية بشار الأسد، وليد المعلم، في نيويورك. وقبله زار وزيران من حزب الله وحركة أمل نظيريهما في دمشق من دون موافقة الحكومة، فكاد هذا التطور أن يفجر الحكومة، إذ أعلن الحريري رفضه اللقاء، وأي عملية تطبيع مع النظام السوري.
في الوقت نفسه، كان الضغط السعودي يشتد ويتصاعد، من خلال المواقف التصعيدية التي راح يطلقها وزير الدولة لشؤون الخليج العربي، ثامر السبهان، المكلف أيضاً بشؤون الملف اللبناني،
ويتصدّى بـ "تغريداته" شبه اليومية لحزب الله الذي أطلق عليه السبهان اسم حزب الشيطان، ونعته بالإرهابي وشبهه بـ "داعش". ثم كان التطور أخيراً، عندما طالب الحكومة واللبنانيين باتخاذ موقف مع حزب الله، أو ضده، غير أن ما دفع السعودية إلى التصعيد هو من دون شك شعورها بشيء من الخديعة، نتيجة مواقف رئيس الجمهورية الذي لم يترك مناسبةً داخلية أو خارجية، إلا وأكد فيها على حاجة الدولة اللبنانية إلى سلاح حزب الله، مبرّراً ذلك بضعف الجيش اللبناني، وعدم قدرته على الدفاع عن لبنان، فيما مليشيا حزب الله تقاتل، منذ أكثر من أربع سنوات، في سورية، دفاعاً عن بشار الأسد، وتتورط في سفك دم الشعب السوري.
ثم جاءت زيارة مستشار علي خامنئي للشؤون السياسية الخارجية، علي أكبر ولايتي، الأسبوع الماضي، بيروت، لتزيد الطينة بلة، فقد صرح فور خروجه من اللقاء مع الحريري، في السراي الحكومي، إن "محور المقاومة انتصر في اليمن والعراق وسورية ولبنان"، وإن هذا المحور سيعيد تحرير الرقة التي زارها السبهان قبل أسابيع، بعد أن قامت قوات سورية الديموقراطية بتحريرها من تنظيم داعش. وأفادت مصادر إعلامية إيرانية رسمية، بعد استقالة الحريري، بأن الأخير الذي كان عائداً لتوه من الرياض حمل إلى ولايتي رسالة سعودية، تطالب طهران بالانسحاب من اليمن، ووقف الدعم وتقديم السلاح للحوثيين. فيما رأت مصادر رئيس الحكومة اللبنانية في تصريحات ولايتي، من السراي بالذات، تحدياً واستفزازاً لموقف الحريري، وللبنان الرسمي الذي التزم سياسة "النأي بالنفس" والحياد تجاه الصراع على الأرض السورية. فكان ما كان من عودة الحريري ثانية إلى الرياض، وإعلانه استقالته من هناك، وهي خطوةٌ في مطلق الأحوال، ومهما كانت الأسباب، لا تليق برئيس حكومة لبنان. وبات لبنان اليوم أمام مأزق سياسي ودستوري كبير، ناهيك عن مضاعفات اشتداد الكباش الإقليمي، الإيراني- السعودي تحديداً، على الداخل اللبناني. إذ في حال أصر الحريري على استقالته، وهذا المرجح، فإن أحداً من القيادات والشخصيات السنية لن يتجرأ على تحمل المسؤولية، في ظل ما آلت إليه هذه الظروف داخلياً وإقليمياً، وتحديداً في تطور علاقة هذا المكون اللبناني بالسعودية. وإذا تجرأ أحدهم، فإنه سيكون معزولاً على صعيد الطائفة، وربما ووجه بمقاطعة من نواب الشارع السني وقياداته. ما سيضع رئيس الجمهورية أمام مأزق حقيقي، ليس سهلاً الخروج منه. وحدها ربما حكومة حيادية تشكل مخرجاً مؤقتاً، تكون مؤلفةً من تكنوقراط غير سياسيين، مهمتها التحضير لإجراء الانتخابات في الربيع المقبل. عدا عن أن أي حل ممكن أن يُجترح سيطيح كل ما راهن عليه عون وتياره، ووعدوا به اللبنانيين من تغيير وإصلاح للحياة السياسية. السيناريو الأقل تفاؤلاً هو الغرق في مستنقع الشلل أشهراً وأشهراً، والحذر مما ستحمله تطورات الأزمة السورية. أما السيناريو الأسوأ فهو تحول لبنان ساحة مواجهة مباشرة بين إيران والسعودية، فيصبح مصيره على كف عفريت.
هزّت الاستقالة لبنان، وأربكت الخصوم قبل الحلفاء، فهو عاد إلى رئاسة الحكومة قبل أقل من سنة، بعد فراغ في موقع رئاسة الجمهورية دام نحو سنتين ونصف السنة، وعلى إثر كباش يومها بين فريقي الصراع، تحالف قوى 14 آذار الذي تحلل، وكان يدعم سمير جعجع للرئاسة، وفريق 8 آذار الذي ما زال على قيد الحياة، وكان يتمسك بانتخاب ميشال عون. وإذ بالأوراق تختلط بـ "قدرة قادر"، ويقرّر الحريري، بنتيجة صفقة تم التوصل إليها بين الطرفين، دعم عون للرئاسة في مقابل عودته إلى القصر الحكومي، والتفاهم على مجموعة مشاريع وصفقات يتقاسمها الطرفان. وحظي الاتفاق بدعم حزب الله ومباركته، وكان الحزب يرى في عودة
عندها باركت السعودية الاتفاق، مراهنة على جدية ما نقل إليها أن عون سيبتعد عن سياسة التقارب مع حزب الله والمحور الإيراني- السوري، وسيكون رئيساً توافقياً على الصعيد الداخلي وحيادياً على الصعيد الإقليمي. وأوفد الملك سلمان أمير مكة إلى بيروت للتهنئة، واستقبل عون، في أول زيارة رسمية له، إلى الخارج. وقامت هذه الحكومة على تعاون الثنائي الحريري - جبران باسيل الذي يرأس "التيار الوطني الحر"، وكان وزيراً للخارجية. وعمل الخصمان السابقان بتناغم وتضامن لإقرار مشاريع عديدة، وتمرير عدد من الصفقات في قطاع الكهرباء والنفط والاتصالات وغيرها. وخاضا معركة إقرار قانون انتخابي جديد، حاولا تفصيله على قياسهما، عبر اعتماد مبدأ التمثيل النسبي. وبقي الخلاف قائماً حول بعض المواقف من الوضع الإقليمي، وخصوصاً تجاه الأزمة السورية، فتقرّر التزام مبدأ "النأي بالنفس" وعدم الانحياز إلى جانب هذا المحور أو ذاك. إلى أن انفجرت أزمة النزوح السوري بشكل كبير وخطير، بعد أن بلغ عدد النازحين نحو مليون ونصف مليون، عندها حاول فريق حزب الله وحلفاؤه توظيف هذه المشكلة من أجل إعادة فتح الحوار وخطوط التواصل مع النظام السوري. واستعر الخلاف والسجال، عندما بادر باسيل إلى الاجتماع بوزير خارجية بشار الأسد، وليد المعلم، في نيويورك. وقبله زار وزيران من حزب الله وحركة أمل نظيريهما في دمشق من دون موافقة الحكومة، فكاد هذا التطور أن يفجر الحكومة، إذ أعلن الحريري رفضه اللقاء، وأي عملية تطبيع مع النظام السوري.
في الوقت نفسه، كان الضغط السعودي يشتد ويتصاعد، من خلال المواقف التصعيدية التي راح يطلقها وزير الدولة لشؤون الخليج العربي، ثامر السبهان، المكلف أيضاً بشؤون الملف اللبناني،
ثم جاءت زيارة مستشار علي خامنئي للشؤون السياسية الخارجية، علي أكبر ولايتي، الأسبوع الماضي، بيروت، لتزيد الطينة بلة، فقد صرح فور خروجه من اللقاء مع الحريري، في السراي الحكومي، إن "محور المقاومة انتصر في اليمن والعراق وسورية ولبنان"، وإن هذا المحور سيعيد تحرير الرقة التي زارها السبهان قبل أسابيع، بعد أن قامت قوات سورية الديموقراطية بتحريرها من تنظيم داعش. وأفادت مصادر إعلامية إيرانية رسمية، بعد استقالة الحريري، بأن الأخير الذي كان عائداً لتوه من الرياض حمل إلى ولايتي رسالة سعودية، تطالب طهران بالانسحاب من اليمن، ووقف الدعم وتقديم السلاح للحوثيين. فيما رأت مصادر رئيس الحكومة اللبنانية في تصريحات ولايتي، من السراي بالذات، تحدياً واستفزازاً لموقف الحريري، وللبنان الرسمي الذي التزم سياسة "النأي بالنفس" والحياد تجاه الصراع على الأرض السورية. فكان ما كان من عودة الحريري ثانية إلى الرياض، وإعلانه استقالته من هناك، وهي خطوةٌ في مطلق الأحوال، ومهما كانت الأسباب، لا تليق برئيس حكومة لبنان. وبات لبنان اليوم أمام مأزق سياسي ودستوري كبير، ناهيك عن مضاعفات اشتداد الكباش الإقليمي، الإيراني- السعودي تحديداً، على الداخل اللبناني. إذ في حال أصر الحريري على استقالته، وهذا المرجح، فإن أحداً من القيادات والشخصيات السنية لن يتجرأ على تحمل المسؤولية، في ظل ما آلت إليه هذه الظروف داخلياً وإقليمياً، وتحديداً في تطور علاقة هذا المكون اللبناني بالسعودية. وإذا تجرأ أحدهم، فإنه سيكون معزولاً على صعيد الطائفة، وربما ووجه بمقاطعة من نواب الشارع السني وقياداته. ما سيضع رئيس الجمهورية أمام مأزق حقيقي، ليس سهلاً الخروج منه. وحدها ربما حكومة حيادية تشكل مخرجاً مؤقتاً، تكون مؤلفةً من تكنوقراط غير سياسيين، مهمتها التحضير لإجراء الانتخابات في الربيع المقبل. عدا عن أن أي حل ممكن أن يُجترح سيطيح كل ما راهن عليه عون وتياره، ووعدوا به اللبنانيين من تغيير وإصلاح للحياة السياسية. السيناريو الأقل تفاؤلاً هو الغرق في مستنقع الشلل أشهراً وأشهراً، والحذر مما ستحمله تطورات الأزمة السورية. أما السيناريو الأسوأ فهو تحول لبنان ساحة مواجهة مباشرة بين إيران والسعودية، فيصبح مصيره على كف عفريت.