06 نوفمبر 2024
القوى اليمنية والارتهان للمال السياسي
مجتمع محلي تتصدّره قوى ولاءاتها عابرةٌ للحدود هو مجتمع يمكن اختراقه، وبالتالي السيطرة عليه. هكذا نجحت القوى المتدخلة في اليمن في النفاذ، إلى حد كبير، في عمق المجتمع اليمني، وذلك بالاعتماد على المال السياسي والمساعدات الإنسانية، وغيرها من أشكال قنوات التدخلات الموجهة، إذ عملت منهجيتها بآليتين متوازيتين: رأسية سعت إلى صياغة صوت سياسي مجتمعي، من خلال إعادة إنتاج أو تصدير نخب محلية يمنية لا وطنية، تتبنّى منظومتها الأيديولوجية والسياسية، بحيث أصبحت هذه النخب هي المبشّر بأجنداتها في المجتمع، وآلية أفقية تجذّر حضورها في التنظيمات المجتمعية الصغيرة، فيما استغلت الصراعات السياسية والاجتماعية التي فاقمتها الحرب، بما في ذلك حالة الفقر المدقع، لتفتيت البنية السياسية والمجتمعية في اليمن، وتكريس ولاءاتٍ محليةٍ تقوم مقام الولاء للوطن.
على مدى عقود، صاحب التدخلات الإقليمية المتدرجة في الشأن اليمني تدفق المال السياسي، الأمر الذي غذّى دورات الصراع المحلية التي شهدها اليمن طوال تاريخه المعاصر، فقد احتفظت العربية السعودية بلقب الممول التاريخي للصراع في اليمن، بلا منازع، سواء بدعمها القوى الملكية إبّان ثورة 26 سبتمبر/ أيلول 1962، وما ترتب عليه من تأجيج دورات الصراع اللاحقة، إلى دعمها القوى التقليدية من شيوخ القبائل، وبعض القادة السياسيين والعسكريين والرموز الدينية، وذلك من خلال اللجنة السعودية (الخاصة) التابعة لجهاز المخابرات، والتي لعبت دوراً محورياً في استقطاب شريحةٍ واسعةٍ من القوى اليمنية، بحيث أصبحت ذراعاً سعودية بامتياز، نفذت أجنداتها في اليمن، فيما وظفت الجمعيات الخيرية اليمنية التي موّلتها لتحقيق أهداف عديدة، تمثلت بنشر المذهب الوهابي في المناطق اليمنية، واستخدام رموزها الدينية لاستهداف القوى المدنية في اليمن. في المقابل، أفضت الثورة اليمنية إلى تدفق المال السياسي إلى اليمن من دول خليجية وإسلامية، وتمظهر ذلك بدعم أحزاب الإسلام السياسي وجماعاته على اختلاف مرجعياتها الدينية. وقد نتج عن ذلك تكريس التجمع اليمني للإصلاح، فرع الإخوان المسلمين في اليمن، والجماعات السلفية وجماعة الحوثي، قوى فاعلة في الساحة اليمنية. وفي حين أثر ذلك سلباً على سياقات الثورة اليمنية في ما بعد، فإنه حوّل هذه القوى إلى أدواتٍ محليةٍ تنفذ أجندات المال السياسي، بحيث أصبحت عبئاً على نفسها وعلى اليمنيين، ولعبت دوراً رئيساً في تأجيج الصراع في المرحلة الانتقالية التي أفضت إلى اندلاع الحرب.
فتحت الحرب الحالية المجال اليمني لتدفق المال السياسي، ويمثل التخريب السياسي والمجتمعي
إحدى نتائجه الكارثية، فقد أدّى تحول اليمن إلى ساحة للصراع الإقليمي متعدّد المحاور، بما في ذلك الصراع الخليجي، إلى تعدّد مصادر المال السياسي، إذ تجاوزت أبعاده ظروف الحرب الحالية واستقطاباتها السياسية إلى آثار أكثر ديمومة، كإفساد المجتمع اليمني، بما في ذلك توجيه الرأي العام المحلي وفق أجندات الممول. ففي حين كان المال السياسي سبباً رئيساً لاستدامة الحرب في اليمن وتشعيبها، من خلال تمويل أطراف الصراع المحلية والجماعات المسلحة المقاتلة، فإنه لعب دوراً كبيراً في صياغة المشهد السياسي اليمني، حيث ضبط تموضعات القوى المحلية، بما في ذلك تصعيد قوى محلية طارئة موالية لها. وإذ كان من الصعب تتبع حركة المال السياسي المتدفق إلى اليمن، طوال الحرب، بسبب غياب الرقابة المجتمعية، فإن ولاءات قوى الحرب والقوى السياسية اليمنية العابرة للحدود، جعلت من ذلك مستحيلاً، إذ إن اعتماد طرفي الحرب، كالسلطة الشرعية وجماعة الحوثي، على حلفائهما الإقليميين، لتمويلهما وتسليحهما، بما في ذلك الأطراف المحلية الأخرى، شرعن الارتزاق السياسي، على الرغم من تبادلهما تهم العمالة للخارج، ومحاولتهما الصفيقة ادعاء الوطنية.
أخذ الارتزاق السياسي في اليمن صوراً عديدة، مباشرة ومواربة، وزاد على ذلك بالعمل على تجريف ما تبقى من القوى الوطنية أو استقطابها إلى الدائرة نفسها، حيث سعت قوى الحرب وأطرافها المحلية والإقليمية، بكل وسائلها، إلى إفساد المعايير والقيم الوطنية للمجتمع اليمني، بل وتقديم الارتزاق والارتهان السياسيين معادلان موضوعيان للوطنية، خصوصا في أذهان الشباب والأجيال القادمة؛ فمن جهة، يحضر المال السعودي أداة فاعلة في استقطاب قوى سياسية من خارج المربع التقليدي القديم، من خلال شراء ولاءات شريحة من الشباب اليمني، بما في ذلك صناعة رموزها إعلامياً، وذلك لتصدير نخبٍ سياسيةٍ شابة موالية لها، وتهيئتها لدور مستقبلي في اليمن، كما استمال المال السعودي بعض رموز المجتمع المدني اليمني، بتمويل منظمات حقوقية ومراكز بحثية أنتجت تقارير سعت إلى غسل الجرائم السعودية في اليمن.
من جهة ثانية، كانت إحدى النتائج المترتبة على التدخل الإماراتي في اليمن تدفق المال الإماراتي، حيث أصبح المحرّك لجملة من الأحداث السياسية والعسكرية العاصفة التي شهدها اليمن طوال
سنوات الحرب، نتج عنها إيجاد كيانات سياسية طارئة، كالمجلس الانتقالي الجنوبي، بما في ذلك الألوية والأحزمة الأمنية التابعة لها، أو دعم أحزاب يمنية كبرى، كحزب المؤتمر الشعبي العام، جناح الرئيس السابق علي عبد الله صالح. ومع تبدّل طبيعة التدخل الإماراتي في اليمن أخيرا، اتجهت السياسة الإماراتية إلى تكريس حضورها عبر محاولة تشكيل رأي عام محلي موالٍ لها، يحذّر من أجنداتها، ويناهض القوى السياسية المحلية المعارضة لها، إذ أصبحت الإمارات الممول الرئيس لقنوات إعلامية ومواقع إخبارية تابعة للمجلس الانتقالي الجنوبي و"مؤتمر" صالح، كما استقطبت مثقفين يمنيين محسوبين على قوى اليسار، بما في ذلك تمويل مؤسسات صحافية أعادت إنتاج خطاب إماراتي في اليمن، وصدّرته على نطاق واسع، فيما شكلت أعمال الهلال الأحمر الإماراتي في جنوب اليمن أداة مجتمعية فاعلة لاختراق مجتمع فقير.
ولا يختلف الحوثيون الذي يتلقون الدعم من الحوزات الإيرانية عن التيارات السياسية والمليشيات المسلحة التي تحاربهم، وذلك في ارتهانهم للممول الإقليمي، حيث تتصدّر قضايا النزاع الإقليمي السعودي - الإيراني أجندة الجماعة، ويتم تحشيد المواطنين في مناطق جماعة الحوثي للخروج في مظاهرات أو المشاركة في فعاليات متبنية للموقف الإيراني على حساب قضايا اليمنيين. وجديد مظاهر ذلك المسيرة التي قامت الجماعة بتسييرها عقب مقتل الجنرال الإيراني قاسم سليماني.
للمال السياسي في اليمن آباء وأحفاد أرباب وآلهة، سياسيون وعسكريون ومثقفون مستعدون دائماً لخوض حروب الآخرين على حساب موت اليمنيين، إذ عرّت الحرب القشرة الهشّة لوطنيةٍ مزيفةٍ لطالما ادّعتها القوى اليمنية. وإذا كانت اللجنة "الخاصة" السعودية سيئة الصيت التي موّلت مشائخ اليمن ظلت وصمة عار، بحيث جعلتهم خارج السياق الوطني، فإننا نعيش اليوم واقعاً مريراً هو زمن اللجان الخاصة التي يصعب حصرها، والتي تتربّح منها قوى ونخب يمنية لم تعد تخجل أبداً من تمويلها من الخارج.
فتحت الحرب الحالية المجال اليمني لتدفق المال السياسي، ويمثل التخريب السياسي والمجتمعي
أخذ الارتزاق السياسي في اليمن صوراً عديدة، مباشرة ومواربة، وزاد على ذلك بالعمل على تجريف ما تبقى من القوى الوطنية أو استقطابها إلى الدائرة نفسها، حيث سعت قوى الحرب وأطرافها المحلية والإقليمية، بكل وسائلها، إلى إفساد المعايير والقيم الوطنية للمجتمع اليمني، بل وتقديم الارتزاق والارتهان السياسيين معادلان موضوعيان للوطنية، خصوصا في أذهان الشباب والأجيال القادمة؛ فمن جهة، يحضر المال السعودي أداة فاعلة في استقطاب قوى سياسية من خارج المربع التقليدي القديم، من خلال شراء ولاءات شريحة من الشباب اليمني، بما في ذلك صناعة رموزها إعلامياً، وذلك لتصدير نخبٍ سياسيةٍ شابة موالية لها، وتهيئتها لدور مستقبلي في اليمن، كما استمال المال السعودي بعض رموز المجتمع المدني اليمني، بتمويل منظمات حقوقية ومراكز بحثية أنتجت تقارير سعت إلى غسل الجرائم السعودية في اليمن.
من جهة ثانية، كانت إحدى النتائج المترتبة على التدخل الإماراتي في اليمن تدفق المال الإماراتي، حيث أصبح المحرّك لجملة من الأحداث السياسية والعسكرية العاصفة التي شهدها اليمن طوال
ولا يختلف الحوثيون الذي يتلقون الدعم من الحوزات الإيرانية عن التيارات السياسية والمليشيات المسلحة التي تحاربهم، وذلك في ارتهانهم للممول الإقليمي، حيث تتصدّر قضايا النزاع الإقليمي السعودي - الإيراني أجندة الجماعة، ويتم تحشيد المواطنين في مناطق جماعة الحوثي للخروج في مظاهرات أو المشاركة في فعاليات متبنية للموقف الإيراني على حساب قضايا اليمنيين. وجديد مظاهر ذلك المسيرة التي قامت الجماعة بتسييرها عقب مقتل الجنرال الإيراني قاسم سليماني.
للمال السياسي في اليمن آباء وأحفاد أرباب وآلهة، سياسيون وعسكريون ومثقفون مستعدون دائماً لخوض حروب الآخرين على حساب موت اليمنيين، إذ عرّت الحرب القشرة الهشّة لوطنيةٍ مزيفةٍ لطالما ادّعتها القوى اليمنية. وإذا كانت اللجنة "الخاصة" السعودية سيئة الصيت التي موّلت مشائخ اليمن ظلت وصمة عار، بحيث جعلتهم خارج السياق الوطني، فإننا نعيش اليوم واقعاً مريراً هو زمن اللجان الخاصة التي يصعب حصرها، والتي تتربّح منها قوى ونخب يمنية لم تعد تخجل أبداً من تمويلها من الخارج.