23 ابريل 2017
القوة المفرطة ضد داعش.. ماذا بعد؟
لم تهاجم أيٌّ من القوى الكبرى نظام بشار الأسد المتمركز بالقرب من خزانات البراميل المتفجرة. ولم يتردد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في استعمال إرهاب تنظيم الدولة مدخلاً لتمركز قواته العسكرية الثابتة على الدوام، والمهتمة على امتداد التاريخ، بالقاعدة البحرية العسكرية الروسية في طرطوس. يعتبر تنظيم داعش بمثابة هدف وحيد ساهم في توحيد الخصوم، مثل العراق والإمارات وروسيا وأميركا. وعلى الأرض، هناك تأثير محدود للطلعات غير المحدودة لطائرات التحالف الدولي المقاتلة. إنه لمن الغريب أن تمتلك كل قوة مهتمة بالأمر تعريفاً خاصا بها لتنظيم الدولة؛ وبالتالي، تستعرض عضلاتها بشكل مبالغ فيه.
وفي هذه الأثناء، استقبلت ألمانيا 250 ألفا من المهاجرين، أغلبيتهم من السوريين؛ حيث يعاني هؤلاء من محنة غياب الأمن في بلادهم، نظراً لأن النظام السوري العصي عن كل تحد هو السبب الرئيس لنزوحهم. إن معاقبة نظام بوتين العسكري مدينة دوما في الأراضي السورية ستنتج عنه عواقب وخيمة بالنسبة للسوريين، كما هو الشأن بالنسبة للشرق الأوسط بأكمله، بغض النظر عن مصير الأسد.
إضافة إلى ذلك، هناك نقاش هامشي يحاول أن يستكشف الأسباب التي تحول دون أن تقضي القوات الموالية للأسد، ومستشاريه العسكريين الإيرانيين، وحزب الله، والمليشيا الموالية للنظام على تنظيم الدولة الإسلامية. وفي الوقت الذي يتمتع فيه نظام الأسد بسهولة نسبية في التموقع، فإن القوات الدولية لا تحظى بقدرة مضمونة في إطاحة مجموعة إرهابية مرنة وغنية ومدججة بالسلاح عن طريق هجماتها الجوية. وبمجرد ما يحصل ذلك، قد تملي روسيا التي توجد قوات لها في سورية، برفقة قوة إيرانية نظامية، شروطها، بغية التخلي عن حصة من الكعكة لتركيا أو لباقي حلفائها الغربيين.
ليست الحملة ضد تنظيم الدولة الأولى من نوعها في تاريخ الإنسانية، فالنتائج المحصول عليها تبقى بعيدة عن النتائج المرجوة؛ إذ تقلل الهجمات الروسية من حظوظ التوصل إلى حل، خصوصا أن ذاكرة موسكو لا تضاهي ذاكرة الولايات المتحدة. كما أن التخلي عن أفغانستان والمناطق القريبة منها، وهي في حالة دمار، خطيئة لا تغتفر. والآن، يجرّب مروجو الصراع أنانيتهم وتكنولوجياتهم في شرق أوسط أقرب ما يكون إلى الاشتعال.
ومع تفكك الاتحاد السوفياتي، انقشع الأمل في سلام نسبي يسود العالم، حيث أدى انهيار الإمبراطورية السوفياتية إلى تراجع يوغوسلافيا ونشوء أربع دويلات بمجموعات إثنية متنوعة مجبورة على العيش تحت راية واحدة عقوداً. وأعادت المجازر فيها إلى أذهان العالم الأعمال البشعة والوحشية التي ارتكبت في أثناء الحرب العالمية الثانية. ففي وقت كان فيه أمراء الحرب الأفغان يضطربون وسط اقتتال مرير، أصبحت جارتها باكستان مسرحاً لحربٍ بالوكالة بين الشيعة والسنة. كان تنبؤ صموئيل هنتنغتون بـ"صراع الحضارات" يثبت صدق كلماته، حيث تشكل الهويات الدينية والثقافية المصدر الأول لصراع ما بعد الحرب العالمية الباردة.
ثم إنه في وسع الحكام العرب التصدّي للثورات الشعبية، لكن استبدادهم العصي عن التغيير،
انطلاقاً من أفغانستان ما بعد الاتحاد السوفياتي إلى عراق اليوم وسورية الحاضر، لا يبدو أن جهود السلام أثمرت نتائج ملموسة؛ إذ تم تأجيج الصراعات بشكل ملائم بشحنة قاتلة ومتطورة. ويبدو أن وسائل الوقاية من الصراع، والتسيير، والحل مشمولة ضمن خطاب أكاديمي داخل خلايا التفكير والمؤتمرات. ولا تزال أفغانستان التي تستنزف قواها بإسراف نتيجة الفراغ في السلطة الذي خلفه خروج الجيش السوفياتي، يذلها مقاتلو حركة طالبان، ويحتقرونها كل يوم، تزامناً مع استكمال قوات حلف الناتو انسحابها. ويعد استيلاء "طالبان" على ولاية قندوز في الشمال الغربي إنذاراً قوياً لما هو قادم، إذ إن الصراع في أفغانستان بعيد عن السيطرة، فما بالك بالحديث عن إيجاد حل له.
وقبل انتشار ظاهرة الدولة الإسلامية، عرفت سورية محاولاتٍ فاشلة قادها دبلوماسيان من الأمم المتحدة، هما كوفي عنان والأخضر الإبراهيمي. وغرقت هذه البلاد في فوضى عميقة، كما هو الشأن بالنسبة ليوغوسلافيا وباكستان. ونظراً إلى انكسار شوكة أدوات صنع السلام، أصبحت مناطق الصراع في العالم تحت رحمة آلات التقتيل الحربية. ولطالما كرر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة استعداده لتنظيم منتدى للنقاش، إلا أن امتياز الفيتو الذي تتمتع به روسيا والصين ساعد الأسد على البقاء والاستمرار، واستخدام الأسلحة الكيماوية والبراميل المتفجرة، من دون حسيب ولا رقيب.
سفك الدماء في سورية أو تنامي تنظيم الدولة الإسلامية، والافتقار إلى آليات حل الصراع
وقد عقدت كابول، في يوليو/تموز الماضي، محادثات مع "طالبان" بحضور ممثلين لما يناهز ست دول، بما فيهم أميركا والصين، إذ استغرقت القوى العالمية والإقليمية خمس عشرة سنة من أجل استساغة فكرة محاورة المليشيات. إلا أن هناك دولا، مثل الهند، لها موقف متصلب، وتجنح، أيما جنوح، إلى استعمال القوة ضد "طالبان"؛ فمدينة دلهي، مثلاً، تبحث عن منفذ في المنطقة، من أجل استعراض عضلاتها في المجال العسكري، ولإبراز قوتها الفتاكة التي راكمتها على امتداد عقدين. أما أستراليا وفرنسا، فلا تتوفران على الكثير، من أجل إقامة الحجة على حملتهما ضد تنظيم الدولة، وإنما يتعلق الأمر بمجرد استعراض قوتهما الصلبة وتطلعهما ليكونا قوة عالمية.
لذلك، لا تنظيم الدولة الإسلامية يمكن استئصاله، ولا مخطط للسلام يمكن تسطيره. فقد انتشر تأثير داعش عبر شمال إفريقيا من جهة، وعبر أفغانستان وآسيا الوسطى من جهة أخرى. إنها آلة دعائية تظل متطورة ومرتبطة ارتباطاً ذكياً بمعتقداتها وطموحاتها.
لم تكن الحرب قط ميثاقاً للسلام، إذ شكلت الالتزامات السياسية من خلال المفاوضات وسيلة تطاول وهجوم على الغير، انطلاقا من فيتنام، وصولا إلى أفغانستان والجيش الجمهوري الإيرلندي في بريطانيا العظمى فمتمردي القوات المسلحة الثورية الكولومبية. ومع ذلك، قد تسبق القوات العسكرية أي مقدمات من أجل السلام يتبناها الطرف الآخر. لم ترفع الولايات المتحدة حركة طالبان من قائمة ممولي الإرهاب فقط، بل سمحت لها بفتح مكتب سياسي في الدوحة، على أساس أن قطر تعتبر مكاناً سرياً تتوارى فيه حركات المتحاورين عن الأنظار. حان الوقت لإعادة التفكير في حملات القصف ورسم خطة للتعهد بعدم اللجوء إلى العنف.
وقد تلطخت الحملة ضد تنظيم الدولة بحملة مشابهة، تقوم بها الولايات المتحدة، عن طريق هجمات سرية لطائرات بدون طيار على المناطق القبلية في باكستان. وعوض إبداء خطوة في اتجاه مزيد من الشفافية وبناء الثقة، فإنه بالإمكان الإفراج عن الفيديوهات وهويات عمليات الاستهداف الجوي والأظناء المزعومين الذين لقوا حتفهم. ومن شأن الافتقار لمثل هذه الآليات أن يفضي فقط إلى تطرف مواطنين محليين، في الوقت يحظى فيه الضحايا بالتمجيد، إرهابيين كانوا أم لا.
يحتاج الشعب السوري والعالم إلى تحقيق قانوني حول استعمال الأسد الأسلحة الكيماوية وارتكاب المجازر وحملات الإبادة الجماعية باستعمال أجهزة الدولة ومبعوثي وكلاء الحلفاء. والاستغناء عن كيان سياسي مواز (الائتلاف الوطني السوري) سيترك كل شيء بيد المجموعات المقاتلة، ومثل هذه الظاهرة هي التي أدت، إلى وقت قريب، بأفغانستان إلى الكارثة؛ حيث قلما أبان أمراء الحرب عن حنكتهم السياسية، خصوصا في أوضاع معقدة، مثل ما هو عليه الحال في سورية.
أصبحت مسألة التحاور مع تنظيم الدولة الإسلامية خاطئة، وسط رغبة القوى العالمية في تأكيد نفوذها وقوتها الفتاكة على السواء. لن تظهر أي علامة من علامات الضعف والوهن. لكن، لا يبدي أي طرف استعداده ليصير رجل دولة في عالم يطبعه رأسمال سياسي قصير المدى. فكلما أخذت النخبة السياسية العالمية وقتها لتقويم تصديها لتنظيم الدولة بالعراق والشام، ساعدها ذلك في الانتقام بشكل أفضل. وإذا استمر الحل العسكري فقط، فإنه سيتعين على الغرب والخليج العربي الإبقاء على أبوابهما مفتوحة في وجه اللاجئين، والإبقاء على بنوك مرنة للاستنزاف المالي.