القوافل السينمائية المغربيّة: متعة المُشاهدة

19 يوليو 2020
تبنّى المُقيم الفرنسي العام أوبير ليوتي دعم تلك القوافل (Getty)
+ الخط -

رغم الطابع السياسي الصرف، الذي وسم القوافل السينمائية منذ بداياتها في المغرب، في ثلاثينيات القرن الماضي، حين اعتزمت "الإقامة العامة"، التي يُمثّلها سياسياً المُقيم العام أوبير ليوتي، تبنّي تلك القوافل لنشر أفكارها وقضاياها الاستعمارية في البوادي المغربية، بعرض أفلام تسجيلية ووثائقية ذات طابع تاريخي واقتصادي واجتماعي مُرتبط بأهالي البوادي. رغم هذا، ظلّت تتبطّن أيديولوجيات استعمارية عن حرية الشعوب المغاربية ومصيرها، على خلفية الأطروحة الماركسية القائلة إنّ الاستعمار شكل من أشكال التحديث.

مع هذا، وجد المغاربة ملاذهم الآمن في هذه الصورة العجائبية، التي تصدّى لها فقهاء عديدون في تحريمهم إياها. لكنّ الإرادة السياسية الفرنسية كانت أقوى من التفكير الرجعي، ولم تهتمّ كثيراً بهؤلاء الفقهاء وسلاطينهم، أمام التنامي السحيق للمغاربة وإقبالهم على القوافل، التي تُعتبر أحد أشكال بوادر الحداثة السينمائية في المغرب في القرن الـ20.

شكّلت القوافل السينمائية الملامح الأولى لتعلّق المغاربة بالسينما، في ذلك الوقت الباكر، الذي استمرّ أعواماً طويلة، حتى قوننته مع تأسيس "المركز السينمائي المغربي" عام 1944، فعُرضت الأفلام بانتظامٍ في دورٍ سينمائية، ظلّت قاصرة أمام النجاحات الهائلة التي حقّقتها القوافل في بوادي ومدن مغربية صغيرة، راهنت عليها حتّى بعد خروج المُستعمِر، بفضل جمعيات ثقافية وأندية سينمائية، بسبب السياقين التاريخي والسياسي، اللذين شهدهما المغرب حينها.

ومع تنامي المدّ اليساري وتغلغله في المجتمع في السبعينيات الماضية، تحرّر هذا الكيان السياسي فكراً وممارسة من ربقة الماورائيات، المُقيِّدة لبعض الكيانات السياسية الأخرى، برهانه على القوافل، بحكم ما شهدته من فورة سينيفيلية، يصعب اليوم تحقيقها في أكبر دور السينما المغربية، حتّى لو توفّرت لها إمكانات رسمية عالية، ستظلّ هزيلة أمام السحر الذي مارسته الخيام المنصوبة في تخوم البوادي المغربية.

تطرح القوافل السينمائية سؤالاً فلسفياً، يرتبط بمفهوم "الفضاء العمومي"، كما تبلور عند هابرماس. فهي أشبه بالـ"آغورا" اليونانية، حيث يجتمع الناس لمُشاهدة الأفلام، ومناقشة أفكارها وتصوّراتها وجماليّاتها، أيّ أنّ الصُورة تتحرّر من صنميّتها في القاعة، وتُتيح للفيلم أن يُصبح ملكية عامة ومُشاعة للنقاش والتداول بين المُشاهدين، مقارنة مع صالات العرض التي، وإنْ حقّقت نجاحاً باهراً، يظلّ وهج الفيلم خفياً ومُتقوقعاً فيها، وداخل شريحة خاصّة من صنّاع السينما وعشّاقها. أما القوافل، فتفُكّ العزلة عن المناطق المُهمّشة البعيدة، إذْ يُصبح العرض تلقائياً، لا يخضع لشروط تقنية أو لوجيستية مُتصلّبة، بلْ يبقى تلقائياً.

مع عرضٍ كهذا، تؤثّر الصورة السينمائية في المُشاهد، ولا تُقيّد نفسها بشروط مُسبقة للعرض أمام آلاف المشاهدين في ساحة عامة مفتوحة (الهواء الطلق) في البوادي المغربية. الدليل على ذلك النجاحات الباهرة التي تُحقّقها هذه العروض المفتوحة سنوياً أمام الجميع (أغلبها أفلام هندية) في "المهرجان الدولي للفيلم بمرّاكش"، التي تُحقّق نجاحاً في الأوساط الشعبية، مقارنة مع الأفلام المعروضة في القاعات الرسمية للمهرجان، الهزيلة جداً إزاء أفلام معروضة خارجها، يتلقّفها الجمهور ويتفاعل معها في اللحظة نفسها، فرِحاً بسحرها، وراقصاً على أنغام الموسيقى الهندية تحت المطر أحياناً. منذ بداية الثمانينيات الماضية، مارست القوافل، بعلاقتها بالفضاء العام، سحراً على أندية سينمائية قليلة، جعلتها في مقدّمة برامجها، بإقامة فقرات عرض لأفلامٍ مُتنقلة في مدن مغربية صغيرة ومهمّشة، تنتمي إلى المغرب المنسي. هذا لقي تجاوباً كبيراً من شريحة أخرى في المجتمع، اعتبرتها مدن المركز والقيمون على الصناعة السينمائية أنها تتفاعل مع هذه المبادرات، بينما السينما أبعد من أنْ تكون نخبوية.

هذا جعل نقّاداً ومسؤولين عن أنشطة سينمائية في المغرب يُطالبون بتخفيض عدد المهرجانات السينمائية المسيطرة على الأنشطة الثقافية، التي تستهلك دعماً كبيراً مقارنة مع مساهمات متواضعة جداً في الصناعة السينمائية العربيّة، والتركيز على القوافل السينمائية، التي يستفيد منها الناس، وليس فقط من تُوجّه إليهم دعوات للمشاركة في المهرجانات. بالإضافة إلى عامل آخر يُميّز القوافل: إتاحتها للمُشاهد إمكانية النقاش والتحاور بعد كلّ عرض، وهذا مهمّ، له علاقة بالنقد، إذْ يقول المُشاهد رأيه بفيلمٍ، وتكون هذه الشهادات مهمّة أحياناً، لانطلاقها من مُشاهدة سينيفيلية مُتحرّرة من سلطة النظريات السينمائية المُسبقة. هذا يخدم المشروع النقدي، ويجعل من النقد ممارسة ذات قيمة كبرى وأهمية بالغة في الصناعة السينمائية، وليس فقط مجرّد عملية لاحقة على العمل الفني، كما ترى مهرجانات سينمائية مغربية عديدة.

المساهمون