بنبرة حادة يحاول قائد عسكري رفيع في وزارة الدفاع العراقية التهرب من الإجابة عن السؤال الأكثر إحراجاً للمسؤولين في بغداد حول العدد الحقيقي للقوات الأميركية في البلاد. نبرته تعكس استياءً واضحاً من تجاوز الولايات المتحدة للمؤسسة الرسمية العراقية بشأن انتشار قواتها هناك. وكلامه يكشف عن مدى انتهاك واشنطن للسيادة العراقية، إذ يقول: "إذا كان رئيس الوزراء نفسه لا يعرف كم عددهم الحقيقي هل سأعرف أنا ذلك؟ هم يدخلون ويخرجون بلا تأشيرة أو تنسيق مسبق ويملكون ثلاثة مدارج طائرات في الحبانية وعين الأسد والقيارة إضافة إلى مطار أربيل الدولي".
وتشير غالبية الأرقام المسربة عن العدد الحقيقي للأميركيين في العراق إلى وجود ما بين 8 آلاف إلى 10 آلاف عنصر، يتوزعون على فئات عدة: جنود يشاركون في المعارك وآخرون استشاريون أو متعاقدون عسكريون وفنيون إضافة إلى موظفين مدنيين يعملون لحساب وزارة الدفاع الأميركية. لكن هناك من يتحدث عن أرقام أعلى من ذلك.
وبحسب أرقام مسربة منتصف عام 2015، كان عدد القوات الأميركية يتراوح ما بين 5 آلاف إلى 5 آلاف وسبعمائة عنصر، ما يعني زيادة بنحو الضعف حتى مطلع عام 2017 الحالي. وغالباً ما تكون تلك القوات آتية من تركيا والكويت عبر القواعد الأميركية هناك. وتدخل الأجواء العراقية بشكل مباشر نحو القواعد الموجودة في غرب وشمال البلاد من دون المرور بمطار بغداد الدولي.
وينظر "التحالف الوطني" الحاكم الذي يتولى رئاسة حكومات العراق المتوالية منذ غزو البلاد عام 2003، إلى الوجود الأميركي بقلق كبير، لا سيما الجناح اليميني أو المعروف بجناح رئيس الحكومة السابق، نوري المالكي، الموالي لإيران. لكن كتلاً سياسية أخرى ترحب بالوجود الأميركي وتعتبره فرصة للحد من النفوذ الإيراني في البلاد مثل القوى السنية والكردية والمسيحية والتيار المدني المستقل.
ويقول مسؤولون عراقيون في الحكومة إن القوات الأميركية موجودة حالياً في ثمانية مواقع مختلفة أبرزها: الأنبار، كبرى محافظات العراق. وتنتشر القوات داخل قاعدتي عين الأسد، القريبة من الحدود مع الأردن، وقاعدة الحبانية، غربي الفلوجة، وفي معسكر متوسط الحجم قرب مطار بغداد الدولي، ومعسكر جنوب شرق تكريت، عاصمة محافظة صلاح الدين المحلية، إضافة إلى معسكرين في نينوى وآخر في أربيل، عاصمة إقليم كردستان العراق، وموقع صغير قرب الحدود العراقية السورية، غرب الموصل.
ويكشف مسؤول عراقي بارز، تحفظ عن ذكر اسمه، في حديث لـ"العربي الجديد"، عما وصفه "توسع تدريجي غير معلن للقوات الأميركية في العراق". ويبيّن أن "تلك القوات زادت بنحو الضعف منذ نحو عام وبضعة أشهر عن الآن"، مؤكداً أن "رئيس الوزراء العراقي يعلم ذلك لكنه لا يعرف بالتحديد عددهم الحقيقي الآن إلا ما يقوله الأميركيون له، وهو مضطر للموافقة، لأن أي تخفيف أميركي للمعركة في الموصل أو أعالي الفرات يعني مزيداً من الخسائر البشرية للجيش العراقي الذي يتحرك بشكل جيد وبخسائر أقل بفضل الدعم الأميركي"، وفق المسؤول العراقي. ويلفت إلى أن بغداد لا تزال تخضع لرقابة جوية أميركية على أطرافها لرصد أي تهديدات محتملة من تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش). وحول الرقم الأدق للوجود الإجمالي الأميركي في العراق، يؤكد أنهم "أكثر بقليل من 10 آلاف عسكري بمختلف تسمياتهم ومصنفاتهم العسكرية".
ويعتبر مؤيدو الوجود الأميركي في العراق أنه يشكل ضمانة لإعادة سكان المدن ومنع حدوث تغيير ديموغرافي والحد من النفوذ الإيراني العسكري والسياسي على حد سواء. في المقابل، يصنّف "التحالف الوطني" ومليشيات "الحشد الشعبي" هذا الوجود باعتباره احتلالاً جديداً للعراق ويطالبون بانسحاب القوات الأميركية.
وأعلنت واشنطن في نهاية أكتوبر/تشرين الأول الماضي، مصرع جندي أميركي وجرح آخر بمعارك قرب الموصل، وفقاً لبيان أصدرته وزارة الدفاع الأميركية.
وترجح مصادر في بغداد أن واشنطن ستزيد من القوات الأميركية في العراق بعد تسلم الرئيس الجديد المنتخب، دونالد ترامب، ولا سيما أن أغلب فريقه الجديد يؤيد التدخل العسكري المباشر في العراق ولهم تصريحات عدائية تجاه إيران ودورها في العراق.
وعلى الرغم من أن واشنطن اعترفت بوجود القوات في بغداد ضمن القوات المشتركة المنتشرة داخل المنطقة الخضراء المحصنة وسط العاصمة بغداد، وفي محافظتي صلاح الدين والموصل، إلا أن الإدارة الأميركية رفضت بشكل رسمي الاعتراف بمشاركتها في القتال ضد "تنظيم الدولة"، معلنةً أن دورها يقتصر فقط على تقديم المشورة. وكان الرئيس الأميركي، باراك أوباما، قد أعلن سحب قوات بلاده من العراق، وبالتالي فإنه من الصعب عليه أن يعترف بإعادته لها، وهو ما جعل الجانب الأميركي حذراً ومتخوّفاً من الإعلان عن وجود هذه القوات على الأرض.
في هذا السياق، يجدد "التيار الصدري" موقفه الثابت برفض أي شكل من أشكال الوجود الأميركي في العراق. ويقول النائب عن كتلة "الأحرار"، رياض غالي، لـ"العربي الجديد" إن "موقف التيار الصدري بشأن وضع القوات الأميركية ثابت ويرفض وجود أي جندي أميركي وتحت أية صفة لأنه يمس السيادة الوطنية" وفقاً لقوله. ويبيّن أنه "يعد من المؤثرات السلبية على الوضع الأمني"، محذراً في الوقت نفسه من مشاركة القوات الأميركية في عمليات تحرير الموصل لأن لدى قيادة مليشيات الحشد الشعبي تحفظات على هذه المشاركة التي ستؤدي إلى فقدان معركة تحرير الموصل طابعها العراقي. ويؤكد أن كتلته دعت جميع الكتل السياسية إلى تبني موقف موحد من رفض الوجود الأميركي، خصوصاً أن نهاية "داعش" باتت قريبة ولا حاجة لقوات أجنبية، بحسب تعبيره.
وكانت وزارة الدفاع الأميركية أعلنت في شهر سبتمبر/أيلول الماضي عن إرسال 600 جندي إلى العراق لتعزيز مهام التدريب وتقديم المشورة والإرشاد للقوات العراقية في حربها ضد تنظيم "داعش".
في المحصلة، يمكن القول إن عدم الاعتراض الرسمي والجاد من قبل الحكومة العراقية والفريق الحاكم على التصرف الأميركي الحالي، يعكس قبولاً ضمنياً لحرية الحركة العسكرية للقوات الأميركية في العراق، تحت ذريعة أن ذلك يستجيب لمتطلبات المعركة ضد تنظيم "داعش". لكن إلى أي مدى يمكن التغاضي عن استمرار الوجود الأميركي إلى أجل غير محدد؟