القهوة كما يجب

16 ابريل 2016
قهوة (Getty)
+ الخط -
اعتقدت أنّه صباح، تماماً كأنهُ يوم جديد، مختلف، البن ينفذ إلى الدماغ أولاً، يصارع كل الأفكار الأخرى، رائحتهُ وحدها تقتلُ كلَّ شيءٍ، طعمهُ يضعكَ أمامَ خيارين إما الموت، أو البقاء لترى موتاً آخر، موتاً صار اعتيادياً كرشفةٍ أولى.
اليوم قررتُ أن اعتبرهُ صباحاً محايداً، لا ضجيجاً ولا صفاراتِ إنذار، أحلامي كُلّها باتت ساحةَ حربٍ تركتُها قبلَ سنةٍ، سنتين، ثلاث، قبل رشفةٍ تماماً، حين كنتُ أفتحُ بابَ البيتِ لكلِّ صديقٍ شهيد، هؤلاءُ الذين أصبحوا مجردَ قبورٍ وفناجينَ قهوةٍ تدورُ حولَ مجلسِ العزاء المتكررِ في كلِّ زاويةٍ، في كلِّ مدينةٍ، في البلدِ كُلها التي أصبحت خيمةَ عزاءٍ متصلة، وفنجانَ قهوةٍ لا نهزهُ بعدَ الانتهاءِ، فيُسكَب من جديد.
لا موت محايدا، كذلك الفرح، أحلامي تصبح خيمةً تشبهُ خيمةَ العزاءِ بنفسِ الوجوه. بنفسِ العريسِ الذي يتجهزُ لواقعِ آخر، في كلِّ حلمٍ، بنفسِ فنجان القهوة المُر، يدورُ على الحضور، ولا ينتهي، أصواتُ الزغاريدِ نفسُها، أصواتُ الفرحِ هي أصواتٌ أُخرى للحرب، وكلٌّ يُعلنها بطريقتهِ، هناكَ دائماً صوتُ رصاصٍ، ونسوةٌ فرحهن، حزنهن، قديم بقدم المدن، وفناجين القهوة تهتزُ وتدورُ كأنها حلقاتُ الدبكةِ، أو مسيرات التشييع والصلاة.
اليومَ اصطدمتُ برشفتي الأولى، طعم الذاكرةِ له رائحةُ البن، كل شيءٍ يدورُ حولَ الصباحات وإن تكررت، في الأمس كنتُ بائع يانصيب، بعدها بمسافة أصبحت طالباً، عاشقاً، عتالاً، مسجوناً، هارباً، بائع قهوةٍ على أرصفةٍ تنفذُ إليها رائحةُ البن عندَ كلِّ رشفةٍ، لتُعيدَ حلقةَ حياةٍ نَمرُ بها، ما بينَ رشفةٍ وأُخرى ستأتي يوماً ليشربها القومُ علينا.
كيفَ قهوتك؟
لطالما اعتبرت بأن القهوةَ المحلاة بدعةٌ، وأنَّ الذين يشربونَ القهوةَ بسكرٍ هُم أناسٌ بحاجةٍ لقتلِ الوهمِ في حياتهم، وهم الرائحة المُركبة للصباحات، للمساءات، لكلِّ وقتٍ لا تكون فيهِ الأمورُ على طبيعتها، لا يُمكن صُنع الفرحٍ في هذا الحُزن، لم يعد يُمكن تغيير الأشياءِ التي نحياها ونألفها، تماماً كما هي القهوة، مُرةٌ يجبُ أن تُشرب كالحياةِ التي لا نستطيع تغيير حقيقتها، الحقيقة القاتلة، المُرة.
الرشفةُ الثانيةُ وصولٌ للراحة، للإيمانِ بأنَّ شيئاً ما لن يتغير لأسوأ، سيبقى على حالهِ، بعيداً عن الرحيل والموت والعُلب المسماة أوطأن، القهوةُ لا تتغير، تشربُها في كلِّ مكانٍ كأنّها المرةُ الأولى، تحتاج إلى رشفة أو اثنتين لتتأكدَ أن رائحةَ البُن تنفذ للدماغ أولاً، فتضعكَ دائماً أمام خيارين، إما المتابعة لقتلِ الفنجان، أو الهروب لواقعٍ بنفس المرارة، ولو تغيّرت الروائح.
كيف قهوتك؟
تماماً كامتلاك حمامةٍ في قفص، وانتظارِها لتكبُر، ستحطُ دائماً بالقرب، ستأكُلُ كأنّها ابنةُ هذا المكان، تحفظهُ شبراً بشبر، تعبثُ بهِ، وترحلُ دائماً، تاركةً كلَّ شيءٍ، على حاله، كأنّها رائحةُ البُن عندَ أولِ رشفةٍ تلتصقُ بالدماغ، وآخرِ رشفةٍ لا تصنع فارقاً، دائماً، سوى بعض اللحن لذاكرةٍ وواقعٍ لا ينتهيان، ولا يُحليهُما سُكرٌ.



المساهمون