القنوات اللبنانيّة تنعطف على الشاشة وخلفها

05 ديسمبر 2019
تمارس القوى الأمنية عنفها على اللبنانيين (حسين بيضون)
+ الخط -
بينما ينوء اللبنانيون تحت أزمة اقتصادية ومالية تستفحل يومياً، في ظلّ إجراءات مصرفية مجحفة، وإقفال عشرات الشركات وفصل مئات الموظفين، فضلاً عن انتحار مواطنين وإعلان آخرين بيع أعضائهم مقابل مبالغ مالية تعيل عائلاتهم؛ يغرق الإعلام اللبناني في مستنقع "الرايتينغ" باحثاً عن عدد مشاهدات أعلى، مقابل عمله على تسخيف عدد من القضايا بتغطيةٍ غير موضوعية ولا تُقدّم أي معلومة جديدة للجمهور.

هذا التوجّه كان واضحاً بعد اليوم الأربعين للانتفاضة اللبنانيّة. فما كان سائداً منذ بداية الثورة أشار إلى إمكانيّة جديّة لدى الإعلام اللبناني لتقديم صحافة حقيقية تُخبر المواطنين بالحقائق وتفتح ملفّات فساد، وتُعلي صوتهم على صوت السياسيين. لكنّ عدداً من الضغوط السياسية على القنوات، إضافةً إلى عودتها لنهج اللهث وراء المشاهدات، والممارسات الإداريّة المجحفة بحقّ الصحافيين والعاملين في القطاع، كلّها معطيات تُنبئ بتغيير الإعلام لمساره، وعودته إلى ما قبل الثورة من حيث معالجة القضايا.

البثّ المباشر
قلّلت وسائل الإعلام اللبنانية تغطيتها لتحرّكات الشارع بنسبة لا تقلّ عن 50 في المائة، فباتت تنقل الأحداث استنسابياً تبعاً لأجندات سياسيّة. وبعد الضغط الذي مارسته قوى سياسية، بينها "حزب الله" و"حركة أمل" على قناة "الجديد"، فتمّ قطع بثها عن مناطق سيطرة "الثنائي الشيعي"، حاولت قناة LBCI تلقّف الحدث ومشاهدي "الجديد" في الضاحية الجنوبية وغيرها، فحضرت تحت جسر المشرّفية لتنقل تجمعات مناصري الحزبين مع قناة "المنار"، والذين هتفوا يومها "الشعب يريد 7 أيار جديد" (غزوة حزب الله لبيروت عام 2008). بعد ذلك، هجم مناصرو الحزب والحركة على المتظاهرين في عدة مناطق لبنانية، كان بينها ساحة الشهداء في بيروت وبعلبك وصور، كما دارت إشكالات في عدد من المناطق على خلفيات طائفية وحزبية، فلم تنقل القنوات أياً من تلك الأحداث مباشرةً، إلا أنّ مراسليها وصلوا متأخرين وتحدثوا عن "هدوء تام".

طُرحت تساؤلات عدّة حول الأداء الإعلامي وتغييب أحداث كبيرة واعتداءات، ثم بات مراسلو القنوات الثلاث البارزة في لبنان والتي غطّت الانتفاضة منذ بدايتها "إم تي في"، "إل بي سي آي" و"الجديد"، بمثابة حراس الأخلاق في الشارع، والمدافعين عن الجيش اللبناني والقوى الأمنية في ممارساتها، حتى العنيفة والاستنسابية منها، بالإضافة إلى بروز واضح لتوجيه المراسلين للمواطنين كي يتحدّثوا وفق "آداب لغوية" معينة، وهو ما كان ناتجاً عن ضغوط سياسية واتصالات بإدارات القنوات تعرب عن ازعاجها من كثافة التغطية والشتائم التي ينقلها المتظاهرون على الهواء؛ ما استدعى مواطنةً لتقول على "الجديد" ليل الثلاثاء، إنّهم "سرقونا وصادروا أموالنا، لكن الشتم عيب. يريدون إعادة جميع الوجوه الفاسدة لكن الشتم هو العيب".

يوم الأربعاء، وبعد إقدام شابٍ يدعى داني أبو حيدر على الانتحار بسبب الأوضاع المعيشية، ركض المراسلون إلى منزله، فاستصرحوا والدته ووالده، وصوّروا مشاهد الدماء وأخذوا تصريحات منهما وهما في ظلّ صدمة فقد نجلهما، من دون أي مراعاةٍ للمأساة وحجمها. وهو سلوكٌ أقدمت عليه القنوات في تغطيتها لانتحار ناجي الفليطي قبلها بيومين، واستضافة زوجته المفجوعة والمريضة بالسرطان، بالإضافة إلى طريقة المعالجة المستغلّة للمأساة، نفسها، لحالات أخرى كامرأة عرضت كليتها للبيع.

هكذا، تحوّل البثّ المباشر على القنوات اللبنانية، بعد اليوم الأربعين للانتفاضة، إلى لعب دورٍ يميل إلى السلبية وقد يدافع عن السلطة، فاصطفّ بعض المراسلين إلى جانب قوى أمنية وأحزاب ومسؤولين في خندقٍ واحد ضدّ المواطن المطالب بحقّه.



البرامج: كوارث الرايتينغ
بعد شهرٍ على فتح الهواء مباشرةً للمتظاهرين والأحداث في الشارع اللبناني، عادت القنوات اللبنانيّة إلى بثّ برامج، استوحت من الانتفاضة لعرضها، إذ أطلقت جميعها برامج حواريّة جديدة يقدّمها إعلاميوها ومراسلوها بشكلٍ تعاوني، عدا عن برامجها الخاصة. فأطلقت قناة "الجديد" برنامج "يوميات ثورة" الذي بدأ كبرنامج مسائي يناقش سياسياً واجتماعياً واقتصادياً المواضيع المطروحة، ويكشف عن عدد من الأخبار الكاذبة المتداولة، ويكشف ملفات فساد بالجملة.

بعد ذلك، انغمس البرنامج باللهث وراء "الرايتينغ"، فباتت الاستضافات لا تُعبّر عن الشارع، بل عن رغبة القناة في المنافسة على المشاهدين، لتعود المنجمة ليلى عبد اللطيف إلى الشاشة، ثم يفتح الهواء لأخذ وردّ حول مواضيع وشائعات تتعلّق بمذيعين في القناة أو تغطيتها أو أخطاء تتعلق بالعاملين فيها، والاتصال بسياسيين، بالإضافة إلى عرض حالات اجتماعيّة تعاني من الفقر والعوز والعجز، لطرح أسئلة تهين الضيوف ولا تُخفف وجعهم.

قناة "إم تي في" هي الأخرى عادت لبرامجها، وأطلقت برنامج "لآخر نفس" للإعلامي جو معلوف، والذي يفتح قضايا اجتماعيّة عادةً، إلا أنّ الأحداث أضافت إليه السياسة. اعتمد البرنامج على طريقة البورتريه الفني الأقرب إلى الفيديو كليب بدلاً من التقارير الصحافية المعهودة، واستضاف أشخاصاً معنيين بأحداثها أو يستطيعون التعليق عليها، إلا أنّه وقع في عدة أفخاخ كان أسوأها استضافة متّهم بالتحرش الجنسي من أكثر من 50 فتاة وفتح الهواء المباشر له كي يشهّر بهنّ ويبرر لنفسه، فيما عجز معلوف عن مقاربة الموضوع بشكل مهني.

أما برنامج "منّا وجر" الذي يخلط بين الإعلام والفن والترفيه، فأضيفت السياسة إلى مواضيعه الأساسيّة. في حلقته الثلاثاء، حاول أحد المساهمين الدائمين في البرنامج عرض "اسكتش" كوميدي عن العاملات الأجنبيات في المنازل، فخرج هزيلاً ومسيئاً، ما استدعى اعتذار البرنامج وحذفه. كما يحاول المذيعون المساهمون في البرنامج الظهور بلباس الموضوعيين، إلا أنّهم يبدون كحراس أخلاق ومدافعين عن القوى الأمنية، فيُخطّئون المتظاهرين الذين يستضيفهم البرنامج. هذا بالإضافة إلى برامج أخرى أساسية على القناة بينها "صار الوقت" لمارسيل غانم.

قناة "إل بي سي آي" فإلى جانب برنامج حواري ليلي يستضيف أربع شخصيات معاً، وحلقات عن "مؤثري الثورة"، اختارت عرض برنامج "عشرين 30" الذي يناقش القضايا الاقتصادية والسياسية ويحاول تفنيدها، فيما يأخذ المذيع موقفاً إلى جانب الثورة في أسئلته وتعليقاته. وعرضت القناة برنامجها الكوميدي "لهون وبس" في الأسابيع الماضية، مع ورود معلومات عن توقف تصوير حلقات جديدة بسبب عدم سداد القناة المستحقات المتوجبة عليها تجاه الشركة المنتجة.



رواتب الصحافيين والعاملين
ما يظهر على الشاشة يحكي عن الخطّ التحريري وقلّة الوعي الإعلامي والمنافسة على الجمهور. لكنّ ما يدور خلفها يُشير إلى بطش الإدارات بالصحافيين والعاملين في القنوات، فأصبح عملهم أقرب إلى السخرة مع زيادة ساعات العمل على 14 يومياً خلال الثورة، وتقليص مرتباتهم إلى النصف. 

تقول مصادر لـ"العربي الجديد" إنّ العاملين في قناة LBCI تقاضوا هذا الشهر 50 في المائة من مرتباتهم فقط للشهر الثاني على التوالي، في إجراء تكرّر في جميع القنوات وتعزوه الإدارات لإجراءات المصارف وقلّة الإعلانات. أما العاملون في قناة OTV (التابعة للتيار الوطني الحر) فتقاضوا 50 في المائة من رواتبهم للشهر الثالث على التوالي أيضاً.

أما في قناتي "الجديد" و"إم تي في" اللتين دخلتا على خطّ خفض رواتب الموظفين عن شهر تشرين الثاني/نوفمبر، فيختلف السياق. إذ علمت "العربي الجديد" أنّ قناة "الجديد" دفعت لعامليها نسباً من مرتباتهم بناءً على قيمة المبالغ التي يتقاضونها، فمن يتقاضى حتى 2500 دولار في الشهر، حصل على 65 في المائة من الراتب، فيما حصل من يتقاضون على أكثر من 2500 دولار على 55 في المائة من المرتبات. وعزت القناة إجراءها ضدّ الصحافيين إلى قيود المصارف، علماً أنّ موظفين آخرين يتقاضون رواتبهم نقداً لم يحصلوا عليها بعد.

لكنّ ما ذهبت إليه قناة "إم تي في" ضدّ العاملين فيها كان أسوأ من زميلاتها. إذ طلبت إدارة القناة من الموظفين التوقيع على ورقة تُفيد بتقاضيهم 50 في المائة من المرتبات، إلا أنّ معناها الحقيقي هو تخفيض رواتب العاملين بقيمة 50 في المائة، وعدم ضمان دفع الباقي من المرتبات لاحقاً. ورفضت القناة إبلاغ الموظفين عبر رسالةٍ مكتوبة كي لا تكون إثباتاً يدينها، فيما رفضوا بدورهم التوقيع عليها كونها تصادر جميع مستحقاتهم وحقوقهم.

وفصلت "إم تي في" موظّفين، أغلبهم متعاقدون، فيما قامت وسائل إعلام أخرى بطرد موظفين، بينها صحيفة "دايلي ستار". 

ولم تبلغ القنوات موظّفيها بموعد تسديد باقي المرتّبات، أو حداً أقصى للأزمة، فيما قالت مصادر إنّ عدد دقائق الإعلانات بدأ يزداد على الشاشات بعدما انخفض إلى دقيقة واحدة خلال الشهر الأول للانتفاضة، ما يعني زيادةً في الإيرادات.



إسكاتٌ وحذف
تزامناً مع الاستنسابية في تطبيق الأجهزة اللبنانية، على اختلافها، القوانين، يستخدم القانون مرةً جديدة لإسكات المواطنين المنتفضين، فيما دخل "اتصال الحذف" على الساحة الإعلاميّة في البلاد خلال الفترة الأخيرة.

وعلمت "العربي الجديد" بحالتَي "اتصال يبتغي الحذف" مع قناتين، في ما يتعلّق بالانتفاضة والأوضاع المعيشية للمواطنين. ومنع مسؤول أمني في حزب لبناني إحدى المحطات الفضائية من نشر تقرير كان يتحدث عن مجموعةٍ من المنتفضين، في رقابة قَبلية غير مسبوقة بهذه الفجاجة. فيما حذفت قناة "الجديد" عن حساباتها فيديو لنقلٍ مباشر كان يُغطّي اعتصام موظفي "كيدز موندو" الذين لا يتقاضون رواتبهم، وهو الذي تملك فيه ابنة رئيس مجلس النواب، نبيه بري، حصّةً.

كل هذه الفدائح الإعلاميّة والانتهاكات لحرية التعبير لا تنفصل عن انتهاكات ضدّ المنتفضين. إذ عادت استدعاءات الناشطين اللبنانيين للتحقيق على خلفية كتاباتهم ومنشوراتهم، وحتى هتافاتهم، بعد توقّفها لـ45 يوماً إثر الانتفاضة، ما يتخوّف ناشطون لبنانيون من تكريسه كنهج، إثر تكرار الاعتداء على المنتفضين في ظلّ عدم محاسبة المعتدين عليهم.
ومثل يوم الإثنين، أمام مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية، 4 ناشطين من النبطية، هم نعمت بدرالدين، يوسف عاصي، زكي شكر، ومحمد الحاج علي، بسبب كتابتهم منشورات على "فيسبوك" عن اعتداء البلطجية عليهم بمساعدة عناصر من البلدية حينها، أوائل أيام الثورة.
كما مثل يوم الأربعاء الناشط مروان الباشا أمام نفس المكتب، بسبب منشور كتبه على "فيسبوك" عن الوزير وائل أبو فاعور. 
هذا فيما استدعى جهاز أمن الدولة الناشط جورج قزي للتحقيق على خلفية تغريدةٍ كتبها، صباح الثلاثاء، إلا أنّه عاد وألغى الاستدعاء بعد طلب حذفها.

كما رفع مسؤولون ونواب ووزراء وعدّة جهات دعاوى قضائيّة ضدّ وسائل إعلامية وصحافيين لمناقشتهم قضايا فساد أو فتحهم ملفات وتسمية هؤلاء المسؤولين.