القنوات الجزائرية: جنّة القرصنة الفنية وحاضنتها

09 ابريل 2020
من فيلم "1917" الذي تعرض بدوره للقرصنة (فيسبوك)
+ الخط -
وافق مجلس الوزراء الجزائري، الذي ترأسه الرئيس المُقال عبد العزيز بوتفليقة في الربع الأخير من عام 2011، على مشروع قانون الإعلام، الذي يسمح بإنشاء قنوات تلفزيونية خاصة، لينهي بذلك احتكار الدولة للمجال "السمعي البصري".

جاءت هذه الخطوة من نظام منغلق كعملية استباقية، خوفاً من ريح التغيير التي بدأت وقتها تهبّ على الدول العربية، فكان الدافع إليها حماية نفسه من أيّ تغيير ربما يحدث، بالاختباء خلف إصلاحات شكلية تُوهم الآخرين بأنّ الجزائر في طريقها إلى انفتاح إعلامي كبير، أفرز في مرحلة أولى 5 قنوات، ثم وصل، بعد أعوام، إلى نحو 40 قناة تلفزيونية ذات محتوى وتوجّه جزائريّين.

لكن، من الناحية القانونية، هذه قنوات تبثّ من دول مختلفة، وتقدَّم لها في الجزائر تصاريح على أنها مكاتب أجنبية، ويتم التعامل معها على هذا الأساس، ليضمن النظام ولاءها ويتحكّم بها كما يريد، حتّى لا تُشكّل عليه أيّ خطورة إعلامية وسياسية، خاصة أنّه لا يريد تكرار تجربة التعددية الإعلامية للصحافة المكتوبة، التي جاءت على خلفية مظاهرات أكتوبر/ تشرين الأول 1988، فأحرجت النظام بسبب هامش الحرية لبعضها.

لذا، لم يشأ النظام خلق بيئة قانونية لهذه القنوات، بل ساهم في هذا التسيّب، بتركه إياها في الفوضى، لتتحوّل معظمها إلى جنّة للقرصنة، تنتهك الحقوق المادية والمعنوية بعرض مصنّفات فنية، من دون أنْ تردعها أيّ جهة أو تضع حدّاً لها، كأنّها تشجّعها على فعلتها بهذا الصمت، ولا تُفعِّل القوانين ضدّها، ولا تسحب التراخيص المقدّمة لها، إلّا إذا كان الانتهاك يخصّ قضايا سياسية لا تخدم النظام.

التسيّب وغياب المحاسبة والردع القانوني وعدم الاحتكام إلى الأخلاقيات المهنية التي تقف وراء العمل الإعلامي، أمورٌ شجّعت معظم القنوات التلفزيونية الجزائرية الخاصّة على جرائم القرصنة، المتمثّلة باستباحة الأعمال الدرامية والسينمائية ورسوم الأطفال وبرامج أخرى، من دون الاحتكام إلى اتفاقات تجارية للتصريح بعرضها.

هذا حدث مثلاً مع قناة "البلاد تيفي"، بعرضها "1917" للبريطاني سام منديز (2019)، الذي لا يزال يُعرض تجارياً، ولم يمرّ على صدوره سوى أشهر قليلة. وهذا ما فعلته قناة "الفجر تيفي"، بعرضها "معجزة في الزنزانة 7" للتركي مِهْمِت أدا أوزتِكين (2019). كما سبق لـ"الجزائرية وان" أنْ عرضت المسلسل الإسباني المشهور "لا كاسا دي بابل"، المعروض على المنصّة الأميركية "نتفليكس"، صاحبة الحقوق الحصرية.

هذا ما تفعله قنوات أخرى عديدة أيضاً، تستبيح (ولا تزال) حقوق أعمال فنية مختلفة، من دون أنْ تتحرّك أيّ جهة أو مؤسّسة رسمية في الجزائر لحفظ حقوق المؤلفين والحقوق المجاورة.

في هذا الإطار، تواصلت "العربي الجديد" مع مدير "متحف السينما الجزائرية (السينماتيك)" المخرج سليم عقار، الذي ندّد بهذه القرصنة التي لا تحترم الملكية الفكرية للمبدعين، داعياً "سلطة (السمعي البصري) إلى التدخّل لوضع حدّ لهذه القرصنة، خاصة لدى القنوات التي تملك تفويضاً من وزارة الاتصال"، ومضيفاً أنّ "هناك فراغاً قانونياً، كما أنّ شركات الإنتاج السينمائي، كـ(فوكس) و(وارنر) و(باراماونت) وغيرها، لا تملك مكاتب لها ولا يوجد من يمثّلها (في الجزائر)"، لمباشرة الإجراءات القانونية عند عرض عمل سينمائي لها. أما الممثل السينمائي سمير الحكيم، فاعتبر الأمر "سرقة" يجب أن يعاقِب عليها القانون: "لنتخيّل أنّي أقرأ رواية أو قصّة لكاتبٍ ما بعيد عنّي جغرافياً أو ثقافياً، وأنقل عمله إلى منتج سمعي بصري، سواء كان العمل تجارياً أو مجانياً، ولا أصرّح عن حقيقة المؤلّف أو صاحب الفكرة، وأنسبها إلى نفسي والجمهور لن يعلم حقيقة المصدر. أخلاقياً، هذه سرقة. الأمر نفسه بالنسبة إلى القنوات التي تختلس مجهود الآخرين". وأضاف الحكيم: "في البلدان التي تحترم الإبداع والمبدعين، تُحفظ الفكرة، فهي تدرّ مالاً على صاحبها، فما بالك بالأعمال الكبيرة". وختم حديثه قائلاً: "الممثل لا يبيع ما هو مادي كسيارة أو خزانة أو غير ذلك، بل يبيع صورته، وهي عبارة عن أحاسيس تؤثّر في شعور المتفرّج. أشياء لا تُقدّر بثمن. وعليه، أعتبر القرصنة سرقة يعاقب عليها القانون".

من جهته، اعتبر المخرج والكاتب سليم حمدي أنّ "القرصنة عمل لاأخلاقي، لا يختلف على هذا اثنان. لكن، يصعب اتّخاذ خطوات لمواجهتها، خاصّة أنّ القنوات ليست جزائرية قانونياً، رغم أنّها موجّهة إلى الجزائريين". واعتبر حمدي أنّ قرصنة فيلم "حكمٌ بالإعدام على منتجه، والخسائر التي يُمكن أن تنجم عن بثّ فيلم سينمائي لا يزال محل استغلال في القاعات المظلمة، لا يمكن تصوّرها، وربما ينجم عنها وضعنا في قائمة سوداء لدى الشركة المنتجة، خاصة أنّ هناك طموحاً لتطوير التعاملات مع الشركات السينمائية العالمية في المجالات كلّها".
إلى ذلك، لم تردّ "سلطة ضبط السمعي البصري" على اتصال "العربي الجديد" بها لمعرفة وجهة نظرها في هذا الموضوع، كما حصل هذا مع قنوات أخرى تعرض أعمالاً مُقرصنة تمّ الاتصال بمسؤوليها، كقناة "البلاد تيفي"، من دون تلقّي أيّ ردّ رسمي منهم.

قرصنة المحتويات الفنية والترفيهية والبرامج باقية وتتمدّد في القنوات التلفزيونية الجزائرية، بينما تبقى القوانين والنظم الرادعة غير مُجدية، وهذا يُلائم جهات تريد أنْ يبقى الحال على ما هو عليه، لضمان ولائها لهذا النظام، ما دام رأس الحبل في يده، يسحبه إليه متى أراد، ويرخيه متى اقتضت المصلحة والضرورة.


المساهمون