منذ تأسيسها عام 1948، حظيت إسرائيل بالتأييد والرعاية من الدول الغربية، بدءاً من الاعتراف بها وبحقها في الوجود مروراً بتلقيها شتى أشكال الدعم السياسي والاقتصادي والعلمي والإعلامي، والدفاع عنها في المحافل الدولية واستخدام الفيتو لإفشال قرارات إدانتها (حتى الآن استخدمت أميركا الفيتو لصالح إسرائيل 43 مرة). وقد عملت إسرائيل وما زالت على استثمار تلك العلاقة التي تربطها بالغرب بما يحقق أهدافها في تكريس شرعيتها وإدامة احتلالها والتوسع والاستيطان وإنكار حقوق الشعب الفلسطيني. لا شك في أن إسرائيل سعيدة بموقعها في هذه العلاقة، كطفل مدلل لا يتوانى والده (الغرب) عن تلبية جميع طلباته، بل إنها حرصت على استمرارها في هذا الموقع بكل الوسائل بما في ذلك العزف الدائم على وتر الهولوكوست والاضطهاد الذي تعرض له اليهود، والخطر الدائم الذي يتهددها بسبب الأعداء الذين يتربصون بها ويريدون ابتلاعها. إلا أنها عملت بكل ما تستطيع كي تكون شريكا قوياً، لا تابعاً، في تلك العلاقة. الأمر الذي نجحت فيه، إلى حد كبير، نتيجة تحولها من كيان ناشئ وفتي، إلى دولة قوية، ليس على المستوى العسكري وحسب، بل وفي الصناعة والزراعة والعلوم والصحة وغير ذلك. فبحسب تقرير التنمية البشرية الصادر عن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة 2019 تحتل إسرائيل المركز 22 في العالم أي أنها من الدول ذات التنمية البشرية المرتفعة. وتشغل مركزاً متقدما في مجال الأبحاث العلمية والابتكارات، حيث تشير الإحصاءات إلى أن نسبة الإنفاق على البحث العلمي تقارب 5% من الناتج المحلي، وهي من النسب الأعلى عالمياً. وتصنف في المرتبة السادسة عالمياً بحسب متوسط عمر الفرد. وبناء على ذلك، تجاهر إسرائيل بأنها دولة لا تقل شأنا عن الدول الأكثر تقدما، وبأنها تنتمي من حيث نظامها السياسي إلى منظومة الدول المتحضرة والديمقراطية في العالم. ولا تمل من ترديد ديباجة أنها واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط؟!
لكن عنف هذه الدولة (الديمقراطية) وإرهابها ومجازرها وممارساتها العنصرية، بحق الفلسطينيين، لم يتوقف منذ احتلالها فلسطين وتشريدها سكانها الأصليين، وحتى الآن. مثلما أن مقاومة الشعب الفلسطيني للمشروع الصهيوني لم تتوقف منذ بدايات ذلك المشروع وحتى الآن. وقد نجح الفلسطينيون في الحفاظ على وجودهم وانتمائهم وهويتهم الوطنية. وتمكنوا، بفضل مقاومتهم وتضحياتهم وعدالة قضيتهم، من كسب تعاطف شعوب العالم، وخرج الملايين في تظاهرات منددة بإسرائيل وممارساتها الإجرامية والعنصرية، وتحول العلم الفلسطيني والكوفية إلى رمزين للكفاح من أجل الحرية والعدالة. إضافة لذلك، فقد تمكن الفلسطينيون خلال مسيرة كفاحهم الطويلة من انتزاع مكاسب عديدة منها: قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 3236 (1974) الاعتراف بحق تقرير المصير وبمنظمة التحرير ممثلا شرعيا للشعب الفلسطيني، وقرارها رقم 3379 ( 1975) الذي يعتبر الصهيونية شكلا من أشكال العنصرية والتمييز العنصري. وتبنيها عام (1977) يوم 29 نوفمبر يوماً عالمياً للتضامن مع الشعب الفلسطيني.
في أعقاب انتفاضة 1987 الفلسطينية، وبعد إخراج القوات العراقية من الكويت عام 1991، بادرت أميركا والاتحاد السوفييتي الآيل للتفكك بالدعوة إلى "مؤتمر مدريد" بهدف إيجاد حل تفاوضي للقضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي، يقوم على حل الدولتين والقرارات 242 و338 و425. وقد ربطت إسرائيل مشاركتها في المؤتمر بإلغاء قرار مساواة الصهيونية بالعنصرية وهذا ما تم لها بموجب القرار رقم 46/86.
بعد سلسلة من المفاوضات توصلت القيادة الفلسطينية وإسرائيل عام 1993 إلى توقيع اتفاق أوسلو، الذي كان من أبرز تداعياته تجزئة الشعب الفلسطيني وأرضه ومشروعه الوطني، وإضعاف منظمة التحرير، وشل مؤسساتها، وتهميش فلسطينيي الشتات. وعلى الرغم مما قدمته القيادة الفلسطينية من تنازلات، فإن إسرائيل لم تلتزم بالاتفاق. ولم تتوقف خروقاتها له، وبقيت تماطل في تنفيذ بنوده، إلى أن اندلعت الانتفاضة الفلسطينية عام 2000. فواجهتها إسرائيل بمنتهى الوحشية، وكافأتها القوى الفلسطينية المهيمنة بانقسامها عام 2007 الذي كرس سيطرة "حماس" على غزة و"فتح" على الضفة. وبات الفلسطينيون يعيشون تحت وطأة سلطة برأسين تجمع بينهما سيطرة الأجهزة الأمنية وتغييب الديمقراطية والدفاع عن المصالح الحزبية والشخصية الضيقة وهيمنة الفساد والمحسوبية. فضلاً عن الارتباط بأجندات أنظمة عربية وإقليمية وتسول الدعم المالي من هنا وهناك.
الهجوم الصهيوني واستراتيجية المواجهة
نتيجة لحالة الانقسام على الساحة الفلسطينية، وما ترتب على اتفاق أوسلو من تداعيات، وما فرضه على الطرف الفلسطيني من تفاهمات (التنسيق الأمني، السيطرة على المعابر،...). وبحكم حالة الضعف والتشرذم التي وصلت إليهما الساحة العربية نتيجة لسياسات الأنظمة الاستبدادية والفاسدة، وبالنظر لما يشهده العالم من صعود للقوى اليمينية والمتطرفة، فقد وجدت إسرائيل الفرصة مناسبة لانتزاع المزيد من المكاسب، وفك عزلتها وتحسين صورتها، وتضييق الخناق على النضال الفلسطيني في كل الساحات، والانتقال من مرحلة الدفاع إلى الهجوم. معتمدة في ذلك على حلفائها، لا سيما أميركا الترامبية، ولوبياتها الضاغطة في العالم. في هذا السياق جاء الاعتراف الأميركي بالقدس الموحدة عاصمة لإسرائيل، وجاءت صفقة القرن، وجاء تهافت بعض الدول العربية على التطبيع مع الدولة الصهيونية. وفي السياق نفسه جاءت تصريحات الرئيس الفرنسي ماكرون بأن محاربة الصهيونية هو أحد الأشكال الجديدة لمعاداة السامية، ومحاولات الحكومة البريطانية (الفاشلة) منع صناديق تقاعد المجالس المحلية من سحب استثماراتها من شركات إسرائيلية أو داعمة لإسرائيل، وقرار البرلمان الألماني (غير الملزم) اعتبار حركة مقاطعة إسرائيل BDS حركة معادية للسامية.
إن الهجوم الصهيوني الذي تشهده الساحة الدولية والذي يستهدف الفلسطينيين (قضيتهم، حقوقهم، جمعياتهم، نشاطهم وناشطيهم،...)، يتطلب وضع استراتيجية لمواجهته، تنطلق من، وتبنى على:
- إنهاء الانقسام الفلسطيني والتخلص من أوهام أوسلو، وحل الدولتين، وإعادة صياغة المشروع الوطني الفلسطيني انطلاقا من وحدة الأرض والشعب والمصير. وهو ما يستجيب له خيار الدولة الواحدة الديمقراطية العلمانية. بل إنه، وباستناده إلى مقولات الديموقراطية وحقوق الإنسان والعلمانية والمواطنة، ربما يكون الخيار الوحيد الذي يتعارض جذرياً مع المشروع الصهيوني العنصري.
- تشابك الساحات فلسطينيا وعربيا وعالميا. فكفاح الشعب الفلسطيني من أجل نيل حريته لا ينفصل عن نضال الشعوب العربية من أجل الخلاص من الاستبداد والظفر بالحريات، ولا عن نضال شعوب العالم ضد السياسات الليبرالية الجديدة المتوحشة
- توحيد خطاب المنظمات والجمعيات الفلسطينية والعربية ورفع مستوى التنسيق فيما بينها، لا سيما في أوروبا وأميركا التي يبلغ تعداد العرب فيها نحو 10 ملايين، منهم 600 ألف فلسطيني.
- التمييز بين سياسات الحكومات الغربية التي تحكمها المصالح، ومواقف شعوبها من القضية الفلسطينية. ولا بد من كسب تأييد الرأي العام للقضية الفلسطينية نظراً لدوره في التأثير على مواقف تلك الحكومات. الأمر الذي يتطلب الانفتاح على المجتمع والجمعيات والأحزاب، ومخاطبتهم بلغة المنطق والعقل وحقوق الإنسان والحريات.
إضافة لما سبق، من الضروري التأكيد على أهمية الاطلاع الكافي على دساتير البلدان المضيفة، وعلى القوانين والمواثيق الدولية التي تضمن حق الشعوب بالمقاومة، ومعرفة القرارات الدولية التي تنصف الفلسطينيين وقضيتهم وتدين إسرائيل وممارساتها. تجدر الإشارة إلى أن القوانين الأساسية والجنائية في البلدان الغربية ترتبط بعلاقة وثيقة مع القانون الدولي والشرعة الدولية لحقوق الإنسان، بل إن المادة 25 من القانون الأساسي الألماني تؤكد أولوية القانون الدولي. وكما هو معلوم، تعتبر حرية التعبير عن الرأي والنشر وتشكيل الجمعيات والتجمع والتظاهر من الحقوق الأساسية في معظم الدول الغربية ولا يجوز تقييدها إلا بقانون. لذلك فإن قرار اعتبار حركة مقاطعة إسرائيل (BDS) حركة معادية للسامية الذي اعتمده البرلمان الألماني في مايو 2019 لم يكن قراراً ملزماً. ولعله عين الصواب ما صرح به المنسق العام لحركة المقاطعة محمود نواجعة (العربي الجديد، 18 مايو/ أيار 2019) من أن الحركة تدرس "إمكانية الذهاب بشكل قانوني للمحكمة الدستورية الألمانية لمواجهة القرار، لأن هذا القرار نفسه يعارض الدستوري الألماني". وبالفعل فقد قضت المحاكم الألمانية في ثلاث قضايا بأن حرمان مجموعات التضامن مع فلسطين من حقها في استخدام المرافق العامة وتضييق الخناق عليها بسبب دعمها لحركة مقاطعة إسرائيل BDS يعد انتهاكاً للحقوق الدستورية في الحق في حرية التعبير والتجمع. ولعل هذا ما دفع الجالية الفلسطينية بتاريخ 16.5.2020، وبدعم من حركة مقاطعة إسرائيل في مدينة بون وبمشاركة متضامنين ألمان، إلى تنفيذ وقفة تضامنية في الذكرى 72 للنكبة.
مقاطعة إسرائيل... واقع وآفاق
أثبتت تجارب الشعوب فعالية المقاطعة بأشكالها المتعددة كسلاح سلمي يمكن اللجوء إليه لتحقيق أهداف معينة، سياسية كانت أم اقتصادية أم اجتماعية. ولعل المثال الأبرز والأقرب هو تجربة جنوب أفريقيا حيث لعبت المقاطعة دوراً كبيراً في إسقاط نظام الفصل العنصري.
منذ تأسيسها عام 2005 حققت حركة مقاطعة إسرائيل BDS إنجازات مهمة على صعيد المقاطعة الاقتصادية والأكاديمية والثقافية. فقد نجحت في دفع العديد من الشركات لسحب استثماراتها. فنقلاً عن موقع BDS: "كانت حركة المقاطعة BDS عاملاً رئيسياً وراء انخفاض الاستثمار الأجنبي المباشر في إسرائيل بنسبة 46% سنة 2014". وانضم إلى حملات المقاطعة العديد من الجامعات والأكاديميين والمثقفين والفنانين والنقابات في العالم.
إن ردود فعل إسرائيل العنيفة تجاه حركة المقاطعة تشير بوضوح إلى أن هذه الحركة تسير في الاتجاه الصحيح. فبحسب تقرير صادر عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية "مدار" وتحت عنوان "حملة المقاطعة: أسباب توجس إسرائيل" قال وزير المالية الإسرائيلي يائير لبيد في خطاب ألقاه أمام مؤتمر معهد دراسات الأمن القومي التابع لجامعة تل أبيب بتاريخ 29/1/2014، معلقا على تعاظم حركة مقاطعة إسرائيل في العالم أن "عدم الشعور بتأثير المقاطعة حاليا سببه أنها عملية تدريجية.. لكن الوضع الحالي خطير جدا.. فنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا لم يتنبه إلى بداية حملة المقاطعة"، أما مؤتمر هرتسليا 2015 فقد ذهب إلى اعتبار المقاطعة خطراً استراتيجياً وقد يتحول إلى خطر وجودي.
لذلك، تمارس إسرائيل مختلف أشكال الضغوط داخليا وخارجيا من أجل إضعاف الحركة وحظر نشاطها.
إن أهمية سلاح المقاطعة، إضافة للخسائر الاقتصادية التي يسببها لإسرائيل، هي بمساهمته في كسب الفلسطينيين للمعركة الأخلاقية في صراعهم مع الدولة الصهيونية. فاتساع دائرة المؤيدين لحملات المقاطعة (نقابات، مؤسسات، شخصيات عامة)، وتنوع أشكالها (مقاطعة أكاديمية، ثقافية) يزيد من عزلة إسرائيل، ويساهم في كشف حقيقتها كدولة عنصرية. إن الارتباط العضوي بين الاقتصاد والسياسة، ودور الرأي العام في التأثير على أصحاب القرار، يجعل من التعويل على دور المقاطعة في تغيير مواقف الدول وسياساتها أمراً واقعياً لا مجرد تمنيات. من هنا وجب التأكيد على ضرورة المساهمة الفعالة للجاليات الفلسطينية والعربية، في حملات المقاطعة، والتركيز على التغطية الإعلامية لنشاطاتها وإنجازاتها.
أخيراً، تحيلنا المقاطعة إلى قضية مهمة جداً، ألا وهي، محاكمة مجرمي الحرب. فبحسب قوانيين المحكمة الجنائية الدولية تنطبق صفة مجرم الحرب على المسؤولين المباشرين أو غير المباشرين عن جرائم الحرب كأن يكون المسؤول على علم بارتكاب أو قرب ارتكاب الجريمة. وقد قامت ألمانيا بدمج نظام روما المنشئ للمحكمة الجنائية الدولية بقوانينها المحلية عن طريق قانون الجرائم ضد القانون الدولي، مما يمنح السلطات الألمانية الحق في التحقيق في الجرائم الدولية الجسيمة المرتكبة بالخارج والملاحقة القضائية عليها حتى إن لم تكن للجرائم صلة ما بألمانيا. وبالفعل وبناء على دعوة مقدمة من ضحاياهم، تجرى اليوم في مدينة كوبلنز الألمانية محاكمة اثنين من عناصر المخابرات التابعين للنظام السوري بتهمة التعذيب وارتكاب جرائم ضد الإنسانية. واحتمال إدانتهما وارد بنسبة عالية. إذن ثمة إمكانية واقعية اليوم لرفع دعاوى على المسؤولين الإسرائيليين عسكريين وسياسيين في العديد من الدول الأوروبية. وإن عدم سفرهم إلى تلك الدول خوفاً من المحاكمة التي تنتظرهم، يعني تقييداً لحركة الدولة الصهيونية ومسؤوليها، وبالتالي شكلاً من أشكال المقاطعة والعزل للدبلوماسية الإسرائيلية. فضلاً عن الضجة الإعلامية التي سيثيرها رفع هذه القضايا. من هنا يقع على عاتق منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية دوراً كبيراً في تجميع المعلومات والتواصل مع الضحايا والشهود والاتصال بالمحاكم الدولية والتنسيق مع الجمعيات الفلسطينية والعربية ذات الصلة الموجودة في الدول الغربية.
لكن عنف هذه الدولة (الديمقراطية) وإرهابها ومجازرها وممارساتها العنصرية، بحق الفلسطينيين، لم يتوقف منذ احتلالها فلسطين وتشريدها سكانها الأصليين، وحتى الآن. مثلما أن مقاومة الشعب الفلسطيني للمشروع الصهيوني لم تتوقف منذ بدايات ذلك المشروع وحتى الآن. وقد نجح الفلسطينيون في الحفاظ على وجودهم وانتمائهم وهويتهم الوطنية. وتمكنوا، بفضل مقاومتهم وتضحياتهم وعدالة قضيتهم، من كسب تعاطف شعوب العالم، وخرج الملايين في تظاهرات منددة بإسرائيل وممارساتها الإجرامية والعنصرية، وتحول العلم الفلسطيني والكوفية إلى رمزين للكفاح من أجل الحرية والعدالة. إضافة لذلك، فقد تمكن الفلسطينيون خلال مسيرة كفاحهم الطويلة من انتزاع مكاسب عديدة منها: قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 3236 (1974) الاعتراف بحق تقرير المصير وبمنظمة التحرير ممثلا شرعيا للشعب الفلسطيني، وقرارها رقم 3379 ( 1975) الذي يعتبر الصهيونية شكلا من أشكال العنصرية والتمييز العنصري. وتبنيها عام (1977) يوم 29 نوفمبر يوماً عالمياً للتضامن مع الشعب الفلسطيني.
في أعقاب انتفاضة 1987 الفلسطينية، وبعد إخراج القوات العراقية من الكويت عام 1991، بادرت أميركا والاتحاد السوفييتي الآيل للتفكك بالدعوة إلى "مؤتمر مدريد" بهدف إيجاد حل تفاوضي للقضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي، يقوم على حل الدولتين والقرارات 242 و338 و425. وقد ربطت إسرائيل مشاركتها في المؤتمر بإلغاء قرار مساواة الصهيونية بالعنصرية وهذا ما تم لها بموجب القرار رقم 46/86.
بعد سلسلة من المفاوضات توصلت القيادة الفلسطينية وإسرائيل عام 1993 إلى توقيع اتفاق أوسلو، الذي كان من أبرز تداعياته تجزئة الشعب الفلسطيني وأرضه ومشروعه الوطني، وإضعاف منظمة التحرير، وشل مؤسساتها، وتهميش فلسطينيي الشتات. وعلى الرغم مما قدمته القيادة الفلسطينية من تنازلات، فإن إسرائيل لم تلتزم بالاتفاق. ولم تتوقف خروقاتها له، وبقيت تماطل في تنفيذ بنوده، إلى أن اندلعت الانتفاضة الفلسطينية عام 2000. فواجهتها إسرائيل بمنتهى الوحشية، وكافأتها القوى الفلسطينية المهيمنة بانقسامها عام 2007 الذي كرس سيطرة "حماس" على غزة و"فتح" على الضفة. وبات الفلسطينيون يعيشون تحت وطأة سلطة برأسين تجمع بينهما سيطرة الأجهزة الأمنية وتغييب الديمقراطية والدفاع عن المصالح الحزبية والشخصية الضيقة وهيمنة الفساد والمحسوبية. فضلاً عن الارتباط بأجندات أنظمة عربية وإقليمية وتسول الدعم المالي من هنا وهناك.
الهجوم الصهيوني واستراتيجية المواجهة
نتيجة لحالة الانقسام على الساحة الفلسطينية، وما ترتب على اتفاق أوسلو من تداعيات، وما فرضه على الطرف الفلسطيني من تفاهمات (التنسيق الأمني، السيطرة على المعابر،...). وبحكم حالة الضعف والتشرذم التي وصلت إليهما الساحة العربية نتيجة لسياسات الأنظمة الاستبدادية والفاسدة، وبالنظر لما يشهده العالم من صعود للقوى اليمينية والمتطرفة، فقد وجدت إسرائيل الفرصة مناسبة لانتزاع المزيد من المكاسب، وفك عزلتها وتحسين صورتها، وتضييق الخناق على النضال الفلسطيني في كل الساحات، والانتقال من مرحلة الدفاع إلى الهجوم. معتمدة في ذلك على حلفائها، لا سيما أميركا الترامبية، ولوبياتها الضاغطة في العالم. في هذا السياق جاء الاعتراف الأميركي بالقدس الموحدة عاصمة لإسرائيل، وجاءت صفقة القرن، وجاء تهافت بعض الدول العربية على التطبيع مع الدولة الصهيونية. وفي السياق نفسه جاءت تصريحات الرئيس الفرنسي ماكرون بأن محاربة الصهيونية هو أحد الأشكال الجديدة لمعاداة السامية، ومحاولات الحكومة البريطانية (الفاشلة) منع صناديق تقاعد المجالس المحلية من سحب استثماراتها من شركات إسرائيلية أو داعمة لإسرائيل، وقرار البرلمان الألماني (غير الملزم) اعتبار حركة مقاطعة إسرائيل BDS حركة معادية للسامية.
إن الهجوم الصهيوني الذي تشهده الساحة الدولية والذي يستهدف الفلسطينيين (قضيتهم، حقوقهم، جمعياتهم، نشاطهم وناشطيهم،...)، يتطلب وضع استراتيجية لمواجهته، تنطلق من، وتبنى على:
- إنهاء الانقسام الفلسطيني والتخلص من أوهام أوسلو، وحل الدولتين، وإعادة صياغة المشروع الوطني الفلسطيني انطلاقا من وحدة الأرض والشعب والمصير. وهو ما يستجيب له خيار الدولة الواحدة الديمقراطية العلمانية. بل إنه، وباستناده إلى مقولات الديموقراطية وحقوق الإنسان والعلمانية والمواطنة، ربما يكون الخيار الوحيد الذي يتعارض جذرياً مع المشروع الصهيوني العنصري.
- تشابك الساحات فلسطينيا وعربيا وعالميا. فكفاح الشعب الفلسطيني من أجل نيل حريته لا ينفصل عن نضال الشعوب العربية من أجل الخلاص من الاستبداد والظفر بالحريات، ولا عن نضال شعوب العالم ضد السياسات الليبرالية الجديدة المتوحشة
- توحيد خطاب المنظمات والجمعيات الفلسطينية والعربية ورفع مستوى التنسيق فيما بينها، لا سيما في أوروبا وأميركا التي يبلغ تعداد العرب فيها نحو 10 ملايين، منهم 600 ألف فلسطيني.
- التمييز بين سياسات الحكومات الغربية التي تحكمها المصالح، ومواقف شعوبها من القضية الفلسطينية. ولا بد من كسب تأييد الرأي العام للقضية الفلسطينية نظراً لدوره في التأثير على مواقف تلك الحكومات. الأمر الذي يتطلب الانفتاح على المجتمع والجمعيات والأحزاب، ومخاطبتهم بلغة المنطق والعقل وحقوق الإنسان والحريات.
إضافة لما سبق، من الضروري التأكيد على أهمية الاطلاع الكافي على دساتير البلدان المضيفة، وعلى القوانين والمواثيق الدولية التي تضمن حق الشعوب بالمقاومة، ومعرفة القرارات الدولية التي تنصف الفلسطينيين وقضيتهم وتدين إسرائيل وممارساتها. تجدر الإشارة إلى أن القوانين الأساسية والجنائية في البلدان الغربية ترتبط بعلاقة وثيقة مع القانون الدولي والشرعة الدولية لحقوق الإنسان، بل إن المادة 25 من القانون الأساسي الألماني تؤكد أولوية القانون الدولي. وكما هو معلوم، تعتبر حرية التعبير عن الرأي والنشر وتشكيل الجمعيات والتجمع والتظاهر من الحقوق الأساسية في معظم الدول الغربية ولا يجوز تقييدها إلا بقانون. لذلك فإن قرار اعتبار حركة مقاطعة إسرائيل (BDS) حركة معادية للسامية الذي اعتمده البرلمان الألماني في مايو 2019 لم يكن قراراً ملزماً. ولعله عين الصواب ما صرح به المنسق العام لحركة المقاطعة محمود نواجعة (العربي الجديد، 18 مايو/ أيار 2019) من أن الحركة تدرس "إمكانية الذهاب بشكل قانوني للمحكمة الدستورية الألمانية لمواجهة القرار، لأن هذا القرار نفسه يعارض الدستوري الألماني". وبالفعل فقد قضت المحاكم الألمانية في ثلاث قضايا بأن حرمان مجموعات التضامن مع فلسطين من حقها في استخدام المرافق العامة وتضييق الخناق عليها بسبب دعمها لحركة مقاطعة إسرائيل BDS يعد انتهاكاً للحقوق الدستورية في الحق في حرية التعبير والتجمع. ولعل هذا ما دفع الجالية الفلسطينية بتاريخ 16.5.2020، وبدعم من حركة مقاطعة إسرائيل في مدينة بون وبمشاركة متضامنين ألمان، إلى تنفيذ وقفة تضامنية في الذكرى 72 للنكبة.
مقاطعة إسرائيل... واقع وآفاق
أثبتت تجارب الشعوب فعالية المقاطعة بأشكالها المتعددة كسلاح سلمي يمكن اللجوء إليه لتحقيق أهداف معينة، سياسية كانت أم اقتصادية أم اجتماعية. ولعل المثال الأبرز والأقرب هو تجربة جنوب أفريقيا حيث لعبت المقاطعة دوراً كبيراً في إسقاط نظام الفصل العنصري.
منذ تأسيسها عام 2005 حققت حركة مقاطعة إسرائيل BDS إنجازات مهمة على صعيد المقاطعة الاقتصادية والأكاديمية والثقافية. فقد نجحت في دفع العديد من الشركات لسحب استثماراتها. فنقلاً عن موقع BDS: "كانت حركة المقاطعة BDS عاملاً رئيسياً وراء انخفاض الاستثمار الأجنبي المباشر في إسرائيل بنسبة 46% سنة 2014". وانضم إلى حملات المقاطعة العديد من الجامعات والأكاديميين والمثقفين والفنانين والنقابات في العالم.
إن ردود فعل إسرائيل العنيفة تجاه حركة المقاطعة تشير بوضوح إلى أن هذه الحركة تسير في الاتجاه الصحيح. فبحسب تقرير صادر عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية "مدار" وتحت عنوان "حملة المقاطعة: أسباب توجس إسرائيل" قال وزير المالية الإسرائيلي يائير لبيد في خطاب ألقاه أمام مؤتمر معهد دراسات الأمن القومي التابع لجامعة تل أبيب بتاريخ 29/1/2014، معلقا على تعاظم حركة مقاطعة إسرائيل في العالم أن "عدم الشعور بتأثير المقاطعة حاليا سببه أنها عملية تدريجية.. لكن الوضع الحالي خطير جدا.. فنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا لم يتنبه إلى بداية حملة المقاطعة"، أما مؤتمر هرتسليا 2015 فقد ذهب إلى اعتبار المقاطعة خطراً استراتيجياً وقد يتحول إلى خطر وجودي.
لذلك، تمارس إسرائيل مختلف أشكال الضغوط داخليا وخارجيا من أجل إضعاف الحركة وحظر نشاطها.
إن أهمية سلاح المقاطعة، إضافة للخسائر الاقتصادية التي يسببها لإسرائيل، هي بمساهمته في كسب الفلسطينيين للمعركة الأخلاقية في صراعهم مع الدولة الصهيونية. فاتساع دائرة المؤيدين لحملات المقاطعة (نقابات، مؤسسات، شخصيات عامة)، وتنوع أشكالها (مقاطعة أكاديمية، ثقافية) يزيد من عزلة إسرائيل، ويساهم في كشف حقيقتها كدولة عنصرية. إن الارتباط العضوي بين الاقتصاد والسياسة، ودور الرأي العام في التأثير على أصحاب القرار، يجعل من التعويل على دور المقاطعة في تغيير مواقف الدول وسياساتها أمراً واقعياً لا مجرد تمنيات. من هنا وجب التأكيد على ضرورة المساهمة الفعالة للجاليات الفلسطينية والعربية، في حملات المقاطعة، والتركيز على التغطية الإعلامية لنشاطاتها وإنجازاتها.
أخيراً، تحيلنا المقاطعة إلى قضية مهمة جداً، ألا وهي، محاكمة مجرمي الحرب. فبحسب قوانيين المحكمة الجنائية الدولية تنطبق صفة مجرم الحرب على المسؤولين المباشرين أو غير المباشرين عن جرائم الحرب كأن يكون المسؤول على علم بارتكاب أو قرب ارتكاب الجريمة. وقد قامت ألمانيا بدمج نظام روما المنشئ للمحكمة الجنائية الدولية بقوانينها المحلية عن طريق قانون الجرائم ضد القانون الدولي، مما يمنح السلطات الألمانية الحق في التحقيق في الجرائم الدولية الجسيمة المرتكبة بالخارج والملاحقة القضائية عليها حتى إن لم تكن للجرائم صلة ما بألمانيا. وبالفعل وبناء على دعوة مقدمة من ضحاياهم، تجرى اليوم في مدينة كوبلنز الألمانية محاكمة اثنين من عناصر المخابرات التابعين للنظام السوري بتهمة التعذيب وارتكاب جرائم ضد الإنسانية. واحتمال إدانتهما وارد بنسبة عالية. إذن ثمة إمكانية واقعية اليوم لرفع دعاوى على المسؤولين الإسرائيليين عسكريين وسياسيين في العديد من الدول الأوروبية. وإن عدم سفرهم إلى تلك الدول خوفاً من المحاكمة التي تنتظرهم، يعني تقييداً لحركة الدولة الصهيونية ومسؤوليها، وبالتالي شكلاً من أشكال المقاطعة والعزل للدبلوماسية الإسرائيلية. فضلاً عن الضجة الإعلامية التي سيثيرها رفع هذه القضايا. من هنا يقع على عاتق منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية دوراً كبيراً في تجميع المعلومات والتواصل مع الضحايا والشهود والاتصال بالمحاكم الدولية والتنسيق مع الجمعيات الفلسطينية والعربية ذات الصلة الموجودة في الدول الغربية.