22 فبراير 2016
القضاء على العدل
قبل 20 عاماً، أنتج التلفزيون المصري مسلسلاً دينياً بعنوان "القضاء في الإسلام"، وبرغم فشله وعرضه في أكثر أوقات اليوم الرمضاني مواتاً، أنتج التلفزيون منه تسعة أجزاء، لأسباب غير معلومة، فقرر المشاهدون المغتاظون من المسلسل الرديء تسميته "القضاء على الإسلام"، مضيفين إلى ذلك الاسم في كل عام رقم الجزء الجديد، انتقاماً من المسلسل الذي قضت رداءته على نبل فكرته.
تذكّرت ذلك المسلسل، فور الإعلان عن تعيين أحمد الزند رئيس نادي القضاة وزيراً للعدل، والذي جاء بمثابة إعلان عن بدء الجزء الجديد ـ ولا أقول الأخير ـ من مسلسل "القضاء على العدل"، الذي ظل عبد الفتاح السيسي يرعى إنتاجه، منذ أصبح حاكماً فعلياً للبلاد، عقب لحظة التفويض المشؤومة، فشاهدنا، مع توالي حلقاته، مشاهد مفزعة، لقضاة يقضون بتصرفاتهم وتصريحاتهم المثيرة للسخرية على ما تبقى من احترام القضاء وهيبته، ويتخذون مواقف عدائية معلنة من المتهمين، ويحولون حق الدفاع إلى مغامرة غير مأمونة العواقب، ويخوضون منافسة محمومة مع محاكم كوريا الشمالية في أحكام الإعدام الجماعي، ويردمون المسافة التي كانت شاسعة بين القضاءين، المدني والعسكري، ويلقنون رجال الأمن الشهادات اللازمة لتستيف الأحكام، ويمنحون مزيداً من الشرعية للإرهاب، عبر إصدار صكوك البراءة لحسني مبارك وعصابته في أحكام معيبة، حوّلوا حيثياتها إلى معلقات مديح لأزهى عصور الفساد، في حين أخذوا يستأسدون بأحكام قاسية، على فتيات رفعن أصابعهن احتجاجاً على مذبحة، أو طلاب كتبوا آراء معارضة، أو شباب حاولوا التمسك بحقهم في الاحتجاج السلمي.
بعد ذلك كله، كان منطقياً أن يتم تتويج ذلك الهبوط الدرامي الحاد، بتعيين أحمد الزند بالذات وزيراً للعدل، بعد أن كشف رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات، المستشار هشام جنينة، عن قضايا فساده المالي في لقاءات تلفزيونية، ونشرت صحيفة الأهرام الحكومية وثائق تفضح مخالفاته المالية التي ارتكبها باسم نادي القضاة، لنبقى، بعد هذه البداية لهذا الجزء من مسلسل "القضاء على العدل"، في انتظار نهاية أشد قبحاً، كأن نرى قاضياً ينفذ حكم الإعدام بمسدسه الميري على متهم داخل المحكمة، بعد أن يهتف بعبارة "إحنا ساعة الغلط نطرطر زلط"، التي كتبها قاضٍ على صفحته في "فيسبوك" أخيراً، أو أن يتعاون قاض شامخ مع النيابة وحراسة المحكمة على إشعال النار في قفص مكتظ بالمتهمين، ليحترقوا كما احترق ضحايا عربية ترحيلات سجن أبو زعبل من قبل.
لا أدري، إذا كنت قد لاحظت أن كثيرين من مروجي وهم القائد الإصلاحي، عبد الفتاح السيسي، أصابهم وِزر توزير الزند، بحروق عصبية من الدرجة الثالثة، فأخذ بعضهم يغمغم بوجود مؤامرة خفية، وتحدث بعضهم عن معنى كامن للقرار في عقل القائد الحكيم، ليواصلوا سقوطهم الأخلاقي الذي لن تستغربه، على من بلع كل المذابح والاعتقالات والانتهاكات، ووقف في زوره فقط، توزير شخص لا تتناقض مواقفه المعلنة مع مواقف القائد الذي غضوا الطرف عن دمويته وجره البلاد إلى الهاوية، وإذا كان من حق هؤلاء معارضة السيسي، وقت ما شاءوا، فإن من واجب كل صاحب ضمير حي، مواصلة التذكير بأن السيسي لم يبلغ كل هذا الجبروت، إلا بعد مباركة عموم النخبة السياسية لمذابحه، لمجرد أنه ارتكبها بحق خصومهم السياسيين، وتأييدهم لتشريعات تقنين البطش، وتبريرهم الانتهاكات التي مارسها ضد حق التعبير، واتهامهم الذين حذروا مبكراً من عواقب وصوله إلى الرئاسة، بالطيش والرعونة والعمل لمصلحة محمد مرسي وجماعته، مع أن الموقف العاقل الذكي، إذا كانوا يعتبرون المواقف الأخلاقية عيباً، كان يقتضي رفضا قويا لتلك الانتهاكات، خصوصاً حين كانوا في موقع قوة معنوية يخوِّلهم ذلك، بدلاً من تأييد تقنينها الذي سرعان ما جعلهم هدفا سهلا لها.
حين تمت إطاحة وزير الداخلية، محمد إبراهيم، حاول بعض هؤلاء المضللين تصوير ذلك بوصفه قرارا إصلاحيا يدعو إلى الأمل، مع أنه لم يكن إلا سعياً إلى إطاحة وزير بدأ يتجاوز حدوده، ويتصرف كشريك في الحكم، كما كان شريكاً في المذابح. واليوم يصور هؤلاء توزير الزند، بوصفه خطأ يمكن إصلاحه، مع أنه ليس سوى تأكيد إضافي على الدعم الكامل للقضاة، طالما استمروا في دعم السيسي. ولذلك، أطاح وزير العدل لمجرد اختلافه مع ناديهم، وتأخره في زيادة مبالغ العلاج المخصصة لهم، مستغلا ذلك التصريح الطبقي الذي يعبر أصلاً عن رأي عموم القضاة، وليقوم بعدها بتعيين رمز الغطرسة القضائية مكانه، لأن السيسي، ببساطة، يدرك أن احتماءه بقوة الجيش وبطش الداخلية لن ينفعه في مواجهة الجهات الدولية المانحة، إلا في ظل بطش قانوني يرتدي روب القضاء، القضاء على العدل، وعلى نظام السيسي أيضا.