القراءة بالأذن!
قلة من الكتَّاب جعلوا القراءة حياةً، بل واستعاضوا، تقريباً، عن الحياة بالقراءة.
خورخي لويس بورخيس أبرز هؤلاء.
المفارقة، التي يعرفها الجميع، أن الكاتب، أرجنتيني الجنسية، كوني الثقافة والانتماء، عاش ثلاثة أرباع حياته أعمى، ضريراً أقصد، لأن الضرّ بالعربية أليـَقُ بواقع حال هذا المُبصر الكبير، من العمى.
هناك كتب قرأها بورخيس بنفسه، بعينيه الاثنتين، وبما ينشأ من علاقاتٍ وتصوراتٍ بين العين والكتابة، في أي شكل كانت (كتاب، صحيفة، مجلة إلخ) وبين العين وما تقرأه، الأمر الذي لا بدَّ أن يكون مختلفاً، عندما صار يقرأ بأعين الآخرين، أو بأذنيه الخارقتين.
فالكتب، التي تـُقرأ علينا، يختلف تلقّيها عن التي نقرأها بأنفسنا. في الحالة الأولى، هناك وسيط بشري له حضوره، رائحته، حركته، تنفّسه، مزاجه ونبرته في التشديد على كلماتٍ دون غيرها. أما في الحالة الثانية، فنحن نكون لوحدنا. نتخذ الوضعيات التي تريحنا. نجلس إلى مكتب، كرسي، أريكة. أو قد نتمدَّد أرضاً على صدورنا، أو في أسرّتنا، وفي أيدينا كتاب له ثقل وملمس ورائحة ورق وأحرف مطبوعة، غلاف، رسومات داخلية، آثار مرور قراءات السابقين (إن كان الكتاب مستعاراً من مكتبة عامة، أو مقتنى من سوق الكتب المستعملة). وآثار مرور السابقين على الكتاب هي أكثر ما يزعجني، عندما يقع بين يدي كتاب كهذا، لأنَّ العابرين السابقين يضعون خطاً على جملة هنا، وجملة هناك، أو يسجِّلون ملاحظة على الحاشية، تشوّش القراءة، وتستولي على النظر، ويصبح طردُها من حيِّز الكتاب مهمة مستحيلة.
وليست هذه الاستراتيجيات، الآثار، نقاط العلّام، مما يتوقف عنده من تُتلى عليه الكتب لأنَّه، ببساطة، لا يراها.
***
لا أعرف الفرق بين كتابة بورخيس مُبصراً وكتابته ضريراً. لا بدَّ أن يكون هناك فرق. كأن يخفت الجانب البصري في الكتابة ويبرز التأمل، أو كأن يتقدم المحتوى على الشكل.
عند أبي العلاء المعري، زميل بورخيس في محنة العمى، يلمس النقاد فرقاً، ولكنْ، ليس بين طوريه، لأنَّ حكيم المعرَّة، أو رهين المحبسين، عاش حياته كلها ضريراً، لا يعرف ما تكون عليه حياة الإبصار والمبصرين إلا بالوصف. يقال (وهذا يعيدني إلى منهاج الثانوية الأردنية في السبعينيات) إنه كان يشدِّد، في الوصف، على ما لا يحتاج إلى تشديد. (أليس هو صاحب "اللزوميات"، أي الالتزام بما لا يلزم؟)، ويبرز ذلك في الظواهر الطبيعية، التي تحتاج إلى ملاحظة وتأمل بصريين. فما يأخذه الشعراء المبصرون على أنه تحصيل حاصل ليس كذلك عند الشاعر الضرير.. أتحدث، هنا، عن المعري بالطبع.
تعود بي الذكرى إلى قصيدة قرأتها له على مقاعد الدرس يقول فيها:
رُبَّ ليلٍ كأنّهَ الصبحُ في الحُسن
وإن كان أسودَ الطيلسانِ
قد ركضنا فيه إلى اللهو
لما وقفَ النجمُ وقفةَ الحيرانِ
فكأني ما قلتُ والبدرُ طفلٌ
وشبابُ الظلماء في عنفوانِ
ليلتي هذه عروسٌ من الزنج
عليها قلائدٌ من جُمانِ
وكأنَّ الهلال يهوى الثريا
فهما للوداع مُعْتنقانِ (...)
فهنا يبدو المعريّ مصغياً إلى تفاصيل في ظواهر طبيعية لا يعرفها إلا بالسمع، فهو، بحسب ما أتذكر من كلام مدرّس العربية في الثانوية، "يزاود" على المبصرين.
هل فعل ذلك بورخيس؟
يحتاج ذلك إلى جواب نقدي دقيق، لا أملكه وليس هذا مقامه، ولكن الغريب (وقد خطر لي هذا الآن) أنَّ الطور الأول المبصر لبورخيس، كان فيه شاعراً، فيما طوره الثاني الضرير، أصبح، بالإجمال، سارداً ومتأملاً وباحثاً (بالاشترك مع آخرين، مثل كتابه عن كائنات الأساطير). نحن نعرف العديد من الشعراء الكبار المكفوفين، بدءاً بهوميروس، صاحب "الإلياذة" و"الأوديسة"، وصولاً إلى الشاعر اليمني، عبد الله البردوني، ولا نعرف العديد من الساردين المكفوفين. الاستثناء الذي أعرفه، عربياً، هو طه حسين، على الرغم من أنه لم يخلُ من شعرٍ لا ينافس سرده.
أتخيل أن في وسع المكفوف أن يكون شاعراً، عربياً على الأخص، لأن شعرنا الكلاسيكي كان يقوم على وحدة البيت، لا وحدة القصيدة. يحضرني هنا كيف كان جرير المُبصر "يَكْمُر" نفسه (يغطي رأسه وجسده) بدثار، عندما يستعصي عليه بيت من الشعر، ثم فجأة ينتفض، مفزعاً مَنْ حوله، عندما يهديه "شيطانه" إلى البيت المطلوب، ويقوم إلى قراءته.
السارد الأدبي لا تفيده هذه "الاستراتيجيات". فعليه أن يكوّن سياقاً متماسكاً، أن يبحث عن "مواده"، أن يستنبط شخصياتٍ، ويزجُّ بها في حبكة ما. ولكن، قد لا يبتعد إنتاج بورخيس السردي (باستثناء قصته الطويلة "البرلمان") عما كان عليه في طوره الشعري الأول، فمعظم قصصه القصيرة يمكن إدراجها في خانة أقرب ما تكون إلى قصيدة النثر منها إلى السرد القصصي التقليدي. وهذا، حسب ظني، هو تأثير "عماه" على كتابته. فهذه القصص تتسم ببناء محكم، نحت لغوي، إيقاع مضطرد وشعرية كتيمة، تميل إلى القصر.
***
بالقراءة على بورخيس، الذي كان ينبِّه القارئين إلى أخطائهم ويصحّحها لهم، (ما يعني أنه يعرف هذه الكتب)، نكون أمام قناعة سقراط القائلة إن القراءة لا توقظ داخل القارئ إلاّ ما كان القارئ يعرفه سلفاً، وبأنَّ الحكمة لا تتأتى من أحرف صمّاء، ميتة!
لكنَّ الحكمة عند بورخيس، إن وُجدت بالمعنى السقراطي السابق، بل إبداعه الفريد من نوعه، جاء من أحرف صمّاء، ميتة!