24 أكتوبر 2024
القدس مع ترامب.. الأقوال والأفعال معاً
لا يختلف الانحياز الأميركي لإسرائيل في قضية القدس عنه في مجمل قضايا الصراع العربي ـ الإسرائيلي، فقرار الأمم المتحدة 181 (قرار تقسيم فلسطين)، أعطى القدس نظاماً خاصاً وكياناً منفصلاً (Corpus Sepratum)، تديره الأمم المتحدة. بعد عامين من القرار، ومع قدوم الانتخابات الرئاسية الأميركية، عارضت إدارة الرئيس هاري ترومان قرار تدويل مدينة القدس، واستجاب في ذلك إلى المطالب الصهيونية، وكان غرضه جذب الأصوات اليهودية لدعمه في الانتخابات الرئاسية، وقد برّرت تلك الإدارة موقفها ذاك بالقول إن حل التدويل غير قابل للتطبيق وغير عملي، لافتقاده قوة تنفيذية قادرة على فرضه.
بعد احتلال إسرائيل القدس الغربية في حرب العام 1948، أعلنت إسرائيل مدينة القدس عاصمة لها، وطلبت الأمم المتحدة من الدول الأعضاء عدم الاعتراف بهذا الإعلان. ولتعزيز وضع القدس عاصمة، نقلت إسرائيل في 1953 الدوائر الحكومية إلى القدس، لفرض الأمر الواقع، وإجبار الدول الأخرى على التعامل مع المدينة بوصفها عاصمة إسرائيل، خصوصا بعد التزام الأغلبية الساحقة من الدول قرار الأمم المتحدة، ورفض نقل سفاراتها إلى القدس. واعتبرت إدارة الرئيس الأميركي دوايت إيزنهاور نقل الوزارات الإسرائيلية، بما فيها وزارة الخارجية، عملاً استفزازياً، ومناقضاً للأعراف والمواثيق الدولية. وأُبلغ طاقم السفارة الأميركية في إسرائيل بعدم التعامل مع تطبيق قرار الانتقال. ولكن بعد عام ونصف العام، أي في 1955 قدم السفير الأميركي، لوسون، أوراق اعتماده في القدس.
بعد احتلال إسرائيل القدس الشرقية في 1967، انضمت الولايات المتحدة إلى المجتمع الدولي، واعتبرت القدس الشرقية أرضا محتلة. وأكد سفير الولايات المتحدة في الأمم المتحدة، تشارلز
بوست، هذا الموقف في 1969. وبقي الموقف الأميركي على حاله خلال السبعينات، وحاول الرئيس جيمي كارتر في أثناء مفاوضات كامب ديفيد استعادة الموقف الأميركي من مدينة القدس، في رسالة إلى كل من الرئيس المصري أنور السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن، جاء فيها "تنظر الولايات المتحدة الأميركية إلى الجزء الذي سيطرت عليه إسرائيل من القدس في حرب 1967، على أنه جزء لا يتجزأ من الأراضي المحتلة، لذا فهو يخضع لأعراف القانون الدولي ذات العلاقة بالحقوق والواجبات من الدولة المحتلة...". وعندما انتهى بيغن من قراءة الرسالة، استشاط غضباً، وقال لأعضاء الوفد الإسرائيلي "احزموا الحقائب، سنعود إلى البلاد، لم نأت إلى كامب ديفيد من أجل تقسيم القدس". وبعد مفاوضات طويلة، تقرر طي الرسالة، ووضعها على الرف.
مع إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش الأب في العام 1990، عندما طلبت الإدارة الأميركية من إسرائيل ضماناتٍ بعدم توظيف ضمانات القروض التي طلبتها إسرائيل من الولايات المتحدة لاستيعاب موجة الهجرة اليهودية من الاتحاد السوفيتي، والبالغة عشرة مليارات دولار، بعدم توظيف هذه القروض لاستيعابهم في الأراضي المحتلة، وإلا فإن الإدارة الأميركية ستقطع كل المبالغ التي توظيف في الاستيطان في هذه الأراضي. وقد اختلفت إسرائيل والولايات المتحدة على معنى "المناطق المحتلة"، وأوضح الرئيس بوش موقف بلاده من الموضوع، بأن أعاد التأكيد على التزام الولايات المتحدة قرارات الأمم المتحدة 181 و194 و303، ما عرّض الرئيس بوش إلى حملة شرسة من اللوبي اليهودي وأنصار إسرائيل في أميركا، أجبرت الإدارة الأميركية على التراجع عن موقفها. وقد ركزت الحملة اليهودية على مستشار الرئيس بوش المقدسي الأصل، جون سنونو، الذي اضطر إلى إصدار بيان، قال فيه "إن الولايات المتحدة تؤيد القدس موحدة، على أن يحدّد وضعها النهائي مستقبلاً عن طريق المفاوضات". وهذا ما كرّره وزير الخارجية، جيمس بيكر، في عهد بوش الأب، عندما طلب من جميع الأطراف في أثناء التحضير لمؤتمر مدريد للسلام تأجيل البحث في موضوع القدس، ومواضيع أخرى، إلى مرحلة متأخرة من المفاوضات، حتى لا تنسحب إسرائيل من المفاوضات. الأمر الذي دفع إلى صياغة المفاوضات على المسار الفلسطيني على مرحلتين، الحل الانتقالي، والحل النهائي. وكان الاقتراح الأميركي يستجيب لمطلب حكومة شامير وفرض شروطها على المفاوضات، والتي هددت بالانسحاب من المفاوضات، وعدم المشاركة في المؤتمر، إذا طرح موضوع القدس على طاولة المفاوضات. وقد نصت رسالة الضمانات التي قدمها بيكر للفلسطينيين في العام 1991 على ضرورة عدم "تقسيم مدينة القدس مرة أخرى". وأن تسوية مشكلتها ووضعها يكون من خلال المفاوضات، وبعيداً عن قرارات الأمم المتحدة.
مع إدارة بوش الأب، بدأ الموقف الأميركي الذي شابه الغموض منذ قرار التقسيم، يترك مكانه لموقف أكثر وضوحاً وأكثر انحيازاً لإسرائيل، فعلى الرغم من تهديد الولايات المتحدة إسرائيل باستقطاع مبالغ الاستيطان في الأراضي المحتلة من ضمانات القروض، لم تفرض إدارة بوش أي استقطاعاتٍ على المبالغ الموظفة للاستيطان في القدس.
واستمر هذا الانحياز، والذي أصبح أكثر وضوحاً مع إدارة الرئيس كلينتون، التي استمرت بعدم الاستقطاع من ضمانات القروض الموظفة في الاستيطان في الأراضي المحتلة، وزادت عليه استخدام حق النقض (الفيتو) لحماية إسرائيل من الإدانة الدولية. ففي 1995 وبعد توقيع اتفاقات أوسلو بين الفلسطينيين والإسرائيليين، التي نصت على أنه لا يجوز لأي من الطرفين أن يقوم بأعمال من شأنها التأثير على الوضع النهائي لمدينة القدس، استباقاً لمفاوضات الحل النهائي. لم توقف حكومة إسحق رابين المصادرات، لا في الأراضي المحتلة، ولا في مدينة القدس، حيث صادرت 53 هكتاراً في القدس الشرقية. وثم رفع القضية إلى مجلس الأمن،
والذي صاغ قراراً معتدلاً في إدانة إسرائيل، إلا أن الإدارة الأميركية لم توافق على أي صيغةٍ تدين إسرائيل، فاستخدمت حق النقض (الفيتو) لإسقاط القرار. وقد برّرت مادلين أولبرايت السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة في حينها موقف بلادها بقولها "لم نصوت ضد القرار، لأننا نؤيد مصادرة إسرائيل أراضي القدس، ولكن حكومتي اضطرت إلى معارضة القرار، لأن المجلس سعى إلى أن يقول رأياً في الوضع الدائم للقدس، بينما يتحدّد هذا في المفاوضات بين الأطراف المعنية بالقضية". ومن مفارقاتٍ أفرزتها مصادرة حكومة رابين أراضي في القدس أنه لا اللجوء إلى مجلس الأمن، ولا التهديد بعقد قمة عربية، جعلت الحكومة الإسرائيلية تتراجع عن قرارها، لكن ما أجبر حكومة رابين على التراجع هو ما كانت تسمى في حينه "الكتلة العربية المانعة"، وهم الأعضاء العرب في الكنيست الإسرائيلي الذين كانوا يصوّتون إلى جانب حكومة رابين التي كانت تفتقد إلى الأغلبية في الكنيست، وقد هدّدت هذه الكتلة في حينها حكومة رابين بإسقاط الحكومة، إذا استمرت في عملية المصادرة، فقرّرت حكومة رابين إرجاء المصادرة إلى أجلٍ غير مسمى.
وقد عادت الإدارة الأميركية إلى استخدام حق النقص (الفيتو) لحماية إسرائيل من الإدانة الدولية، عندما قرّرت حكومة بنيامين نتنياهو في 1997 بناء مستوطنة هار حوما في جبل أبو غنيم في القدس. وقد كانت 14 دولة في مجلس الأمن مع القرار الذي لم تعارضه سوى الولايات المتحدة، وقد برّر الرئيس كلينتون هذا الموقف بالقول "إن إسرائيل تعتبر مشروع جبل أبو غنيم مجمع شقق سكنية، لتوسيع حي سكني في القدس، ويعتبره العرب مستوطنة إسرائيلية، في حين تفضل الولايات المتحدة ترك الموضوع للمفاوضات المباشرة بين إسرائيل والفلسطينيين".
بعد فوزه في انتخابات الرئاسة الأميركية في ولايته الأولى، وفي أول مؤتمر صحفي له، سُئل الرئيس كلينتون عن الوقت المناسب لنقل السفارة الأميركية للقدس، فأجاب "اعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل، كما يجب أن تظل القدس مدينة موحدة، ولكن القضية قضية توقيت…". ولم يكن هذا الموقف لكلينتون وحده، فقد وعد جميع مرشحي الرئاسة الأميركية خلال نصف القرن المنصرم الاعتراف بالقدس موحدة عاصمة لإسرائيل، لكن وزارة الخارجية كانت تتدخل في كل مرة لتأجيل تنفيذ ذلك، لئلا يعكّر ذلك علاقات الولايات المتحدة مع الدول العربية والإسلامية، وهي اعتبارات أخذت في السنوات الأخيرة تتراجع. واليوم، مع إعلان الرئيس دونالد ترامب اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل، والأمر ببدء التنفيذ، تجد الولايات المتحدة نفسها أكثر تحرّراً من مراعاة أي اعتبار، وبذلك تم ردم الهوة بين الأقوال الأميركية والأفعال، فمع قرار ترامب تتطابق الأقوال الأميركية مع الأفعال الأميركية التي دعمت إسرائيل في تكريس احتلالها للقدس تغيير معالمها الديمغرافية، وانتهاك القانون الدولي والحقوق الفلسطينية.
بعد احتلال إسرائيل القدس الغربية في حرب العام 1948، أعلنت إسرائيل مدينة القدس عاصمة لها، وطلبت الأمم المتحدة من الدول الأعضاء عدم الاعتراف بهذا الإعلان. ولتعزيز وضع القدس عاصمة، نقلت إسرائيل في 1953 الدوائر الحكومية إلى القدس، لفرض الأمر الواقع، وإجبار الدول الأخرى على التعامل مع المدينة بوصفها عاصمة إسرائيل، خصوصا بعد التزام الأغلبية الساحقة من الدول قرار الأمم المتحدة، ورفض نقل سفاراتها إلى القدس. واعتبرت إدارة الرئيس الأميركي دوايت إيزنهاور نقل الوزارات الإسرائيلية، بما فيها وزارة الخارجية، عملاً استفزازياً، ومناقضاً للأعراف والمواثيق الدولية. وأُبلغ طاقم السفارة الأميركية في إسرائيل بعدم التعامل مع تطبيق قرار الانتقال. ولكن بعد عام ونصف العام، أي في 1955 قدم السفير الأميركي، لوسون، أوراق اعتماده في القدس.
بعد احتلال إسرائيل القدس الشرقية في 1967، انضمت الولايات المتحدة إلى المجتمع الدولي، واعتبرت القدس الشرقية أرضا محتلة. وأكد سفير الولايات المتحدة في الأمم المتحدة، تشارلز
مع إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش الأب في العام 1990، عندما طلبت الإدارة الأميركية من إسرائيل ضماناتٍ بعدم توظيف ضمانات القروض التي طلبتها إسرائيل من الولايات المتحدة لاستيعاب موجة الهجرة اليهودية من الاتحاد السوفيتي، والبالغة عشرة مليارات دولار، بعدم توظيف هذه القروض لاستيعابهم في الأراضي المحتلة، وإلا فإن الإدارة الأميركية ستقطع كل المبالغ التي توظيف في الاستيطان في هذه الأراضي. وقد اختلفت إسرائيل والولايات المتحدة على معنى "المناطق المحتلة"، وأوضح الرئيس بوش موقف بلاده من الموضوع، بأن أعاد التأكيد على التزام الولايات المتحدة قرارات الأمم المتحدة 181 و194 و303، ما عرّض الرئيس بوش إلى حملة شرسة من اللوبي اليهودي وأنصار إسرائيل في أميركا، أجبرت الإدارة الأميركية على التراجع عن موقفها. وقد ركزت الحملة اليهودية على مستشار الرئيس بوش المقدسي الأصل، جون سنونو، الذي اضطر إلى إصدار بيان، قال فيه "إن الولايات المتحدة تؤيد القدس موحدة، على أن يحدّد وضعها النهائي مستقبلاً عن طريق المفاوضات". وهذا ما كرّره وزير الخارجية، جيمس بيكر، في عهد بوش الأب، عندما طلب من جميع الأطراف في أثناء التحضير لمؤتمر مدريد للسلام تأجيل البحث في موضوع القدس، ومواضيع أخرى، إلى مرحلة متأخرة من المفاوضات، حتى لا تنسحب إسرائيل من المفاوضات. الأمر الذي دفع إلى صياغة المفاوضات على المسار الفلسطيني على مرحلتين، الحل الانتقالي، والحل النهائي. وكان الاقتراح الأميركي يستجيب لمطلب حكومة شامير وفرض شروطها على المفاوضات، والتي هددت بالانسحاب من المفاوضات، وعدم المشاركة في المؤتمر، إذا طرح موضوع القدس على طاولة المفاوضات. وقد نصت رسالة الضمانات التي قدمها بيكر للفلسطينيين في العام 1991 على ضرورة عدم "تقسيم مدينة القدس مرة أخرى". وأن تسوية مشكلتها ووضعها يكون من خلال المفاوضات، وبعيداً عن قرارات الأمم المتحدة.
مع إدارة بوش الأب، بدأ الموقف الأميركي الذي شابه الغموض منذ قرار التقسيم، يترك مكانه لموقف أكثر وضوحاً وأكثر انحيازاً لإسرائيل، فعلى الرغم من تهديد الولايات المتحدة إسرائيل باستقطاع مبالغ الاستيطان في الأراضي المحتلة من ضمانات القروض، لم تفرض إدارة بوش أي استقطاعاتٍ على المبالغ الموظفة للاستيطان في القدس.
واستمر هذا الانحياز، والذي أصبح أكثر وضوحاً مع إدارة الرئيس كلينتون، التي استمرت بعدم الاستقطاع من ضمانات القروض الموظفة في الاستيطان في الأراضي المحتلة، وزادت عليه استخدام حق النقض (الفيتو) لحماية إسرائيل من الإدانة الدولية. ففي 1995 وبعد توقيع اتفاقات أوسلو بين الفلسطينيين والإسرائيليين، التي نصت على أنه لا يجوز لأي من الطرفين أن يقوم بأعمال من شأنها التأثير على الوضع النهائي لمدينة القدس، استباقاً لمفاوضات الحل النهائي. لم توقف حكومة إسحق رابين المصادرات، لا في الأراضي المحتلة، ولا في مدينة القدس، حيث صادرت 53 هكتاراً في القدس الشرقية. وثم رفع القضية إلى مجلس الأمن،
وقد عادت الإدارة الأميركية إلى استخدام حق النقص (الفيتو) لحماية إسرائيل من الإدانة الدولية، عندما قرّرت حكومة بنيامين نتنياهو في 1997 بناء مستوطنة هار حوما في جبل أبو غنيم في القدس. وقد كانت 14 دولة في مجلس الأمن مع القرار الذي لم تعارضه سوى الولايات المتحدة، وقد برّر الرئيس كلينتون هذا الموقف بالقول "إن إسرائيل تعتبر مشروع جبل أبو غنيم مجمع شقق سكنية، لتوسيع حي سكني في القدس، ويعتبره العرب مستوطنة إسرائيلية، في حين تفضل الولايات المتحدة ترك الموضوع للمفاوضات المباشرة بين إسرائيل والفلسطينيين".
بعد فوزه في انتخابات الرئاسة الأميركية في ولايته الأولى، وفي أول مؤتمر صحفي له، سُئل الرئيس كلينتون عن الوقت المناسب لنقل السفارة الأميركية للقدس، فأجاب "اعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل، كما يجب أن تظل القدس مدينة موحدة، ولكن القضية قضية توقيت…". ولم يكن هذا الموقف لكلينتون وحده، فقد وعد جميع مرشحي الرئاسة الأميركية خلال نصف القرن المنصرم الاعتراف بالقدس موحدة عاصمة لإسرائيل، لكن وزارة الخارجية كانت تتدخل في كل مرة لتأجيل تنفيذ ذلك، لئلا يعكّر ذلك علاقات الولايات المتحدة مع الدول العربية والإسلامية، وهي اعتبارات أخذت في السنوات الأخيرة تتراجع. واليوم، مع إعلان الرئيس دونالد ترامب اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل، والأمر ببدء التنفيذ، تجد الولايات المتحدة نفسها أكثر تحرّراً من مراعاة أي اعتبار، وبذلك تم ردم الهوة بين الأقوال الأميركية والأفعال، فمع قرار ترامب تتطابق الأقوال الأميركية مع الأفعال الأميركية التي دعمت إسرائيل في تكريس احتلالها للقدس تغيير معالمها الديمغرافية، وانتهاك القانون الدولي والحقوق الفلسطينية.