القاهرة وحراك السودان

17 اغسطس 2019
+ الخط -
استضافت القاهرة أخيرا حوارا بين الحركات المسلحة السودانية والمكونات الأساسية في قوى الحرية والتغيير، على خلفية اعتراض الأولى على عدم تضمين قضايا السلام في الوثيقة الدستورية، وهي المطالب التي اتفقت عليها الحركات المسلحة في مشاوراتها مع قوى الحرية والتغيير برعاية أديس أبابا. ومثل اللقاء فرصة لمصر للعب دور في إتمام اتفاق المرحلة الانتقالية، عبر تقريب وجهات نظر المجتمعين، ما يعني، في محصلته النهائية، دعم الاتفاق المبرم بين قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري السوداني. ويعد اللقاء أول اتصال مصري بقوى الثورة السودانية، وأول تدخل واضح في الحراك، بعدما كان موقفها المعلن يتفاوت ما بين الصمت وإعلان الحياد، عبر تصريحات وبيانات رسمية عمومية تردد عبارات "دعم استقرار السودان وأمنه".
بعد سقوط عمر البشير، أعلنت القاهرة دعمها طموحات الشعب السوداني، ولكن أغلب قوى الحراك ترى أن القاهرة وقفت ضد الانتفاضة، بدعمها حكومة البشير بداية الانتفاضة، وبعدها دعمت المجلس العسكري، لأسبابٍ عديدة، أهمها عدم رغبتها في اندلاع ثورة جنوب مصر، قد تولد موجةً جديدةً من الانتفاضات، تستكمل موجة الثورات العربية، كما مثل وضع مصر الإقليمي، واصطفافها بجانب السعودية والإمارات، إطارا مؤثّرا في تشكيل موقفها، بحكم أن الدولتين ليس في صالحهما تغيير النظام السوداني، أو حدوث انتفاضات عربية جديدة، تأتي بنظامٍ يضرّ مصالحهما.
بعد ثورة "25 يناير" 2011، برزت إشكالية غياب مصر عن محيطها الأفريقي. كانت 
العلاقات المصرية السودانية في القلب من هذا النقاش، وخصوصا أن علاقات التعاون اقتصاديا وأمنيا مهمة للنظامين، حتى وإن اختلفت التوجهات، تظل المصالح الاستراتيجية تفرض حدّا أدنى من التعاون، يتجاوز التصورات المسبقة حول عوامل تقارب أو اختلاف ترتبط بشكل نظام الحكم، وليس أدل على ذلك علاقة النظامين في أثناء حكمي محمد مرسي وعبد الفتاح السيسي. تصوّر بعضهم أن مجيء رئيسٍ ينتمي للإخوان المسلمين يعنى تقارب مصر مع نظام البشير الذي صعد إلى الحكم بتحالفه مع الإسلاميين عبر انقلاب 1989. ولكن فترة مرسي القصيرة لم تشهد تقاربا مع الخرطوم، على الرغم من تصاعد أزمة سد النهضة الإثيوبي، وما مثله من تحدٍّ، بعد إحدى عشرة زيارة خارجية لمرسي خلال عام، التقى البشير وممثلين للمعارضة السودانية والجالية المصرية في الخرطوم. وكان الظرف والتوقيت لا يسمحان لمرسي بتقارب مع نظام البشير، بعد ثورة يناير، فشكل الحكم في السودان، وإن كان إسلاميا، إلا أن مضمونه السياسي دموي وديكتاتوري، والبشير مطلوب لدى محكمة العدل الدولية، على خلفية جرائمه في دارفور. لم يكن في صالح مرسي الذي وصل إلى الحكم بانتخابات بعد ثورة شعبية، التقارب مع البشير، بل حاول "الإخوان"، في هذا الموقف، أن يقولوا إن مرسي مختلف عن البشير. كذلك لم يدافع نظام البشير عن مرسي، حين عزل بعد مظاهرات 30 يونيو، بينما أبدى حسن الترابي، وبعض قياداتٍ من الحركة الإسلامية، تضامنهم، من دون إعلان السودان موقفا رسميا، متعللةً بأن ما جرى شأن مصري داخلي.
وعلى عكس ما تصورته قوى سياسية مصرية وسودانية أن نظام البشير والسيسي ستحدث بينهما مواجهات حادّة، كانت علاقة الرئيسين تتسم بالتعاون، بحكم تشابه مضامين النظامين، لا شكل الحكم، وهذا هو المدخل الأقرب صحةً في التحليل، إلى جانب وجود مصالح مشتركة وقضايا ملحة، كلاهما ضيّق الخناق على المعارضين للنظامين، كما شارك البشير في حفل تنصيب السيسي رئيسا لمصر، وبادله الأخير الزيارة في حفل تنصيبه في يونيو/حزيران 2015، واتصفت الزيارات المتبادلة بينهما بالاحتفاء، وبكثافة لافتة للنظر، 12 لقاءً بين الرئيسين، وما يزيد عن 25 لقاء رسمياً مشتركاً بين حكومتي النظامين.
حاول البشير في زيارته الأخيرة القاهرة (يناير/ كانون الثاني 2019) كسر عزلته، وكسب دعم الخارج ضد انتفاضة الداخل، وأعلنت مصر حرصها على استقرار السودان، بينما بث البشير رسائله من القاهرة، مردّدا خطاب الثورة المضادة التي ترجع الاحتجاجات إلى تآمر قوى خارجية، وأنها استنساخ للربيع العربي، وتقف خلفها "جهات سالبة"، تستهدف السودان كما استهدفت أمن بعض الدول العربية، فضلا عن أن الاحتجاجات محدودة، وما تبثه وسائل الإعلام مبالغ فيه إلى نهاية الخطاب المعروف.
لم يتغير موقف مصر طوال فترة الانتفاضة السودانية في مرحلتها الأولى (ديسمبر/ كانون 
الأول 2018– إبريل/ نيسان 2019): تصريحات رسمية تعلن حرص القاهرة على أمن السودان واستقراره، واستعدادها لتقديم كل أشكال العون له، من أجل الخروج من أزمته، لم تتضمن البيانات والتصريحات توصيف ما جرى في السودان بأنه انتفاضة أو ثورة، بل وصفت بمرادفات أقرب إلى الرفض، فهي الأزمة التي تستدعي الاستقرار، والفترة الحرجة التي يجب تجاوزها، حرصا على عدم الانزلاق للفوضى. كما حرصت الدولة على ضبط الأداء الإعلامي في ما يخص تغطية الثورة السودانية، فقوبلت بالتعتيم المقصود، والذي استمر خمسة أشهر. انكسر هذا نسبيا، عندما سقط البشير، وحل مكانه المجلس العسكري الانتقالي، فأصبحت التغطية الإعلامية تتأرجح بين التجاهل وتناول ما يجري بطابع محافظ. وأعلنت القاهرة رسميا دعمها "خيار الشعب السوداني"، ودعت إلى مساعدة الخرطوم للخروج من "أزمتها"، وأبدت مساندتها المجلس العسكري الانتقالي، من خلال اجتماع القاهرة الذي ضم دولا أفريقية، لإعطاء المجلس العسكري فرصة ثلاثة أشهر لتسليم السلطة وبدء المرحلة الانتقالية. وبدأت مصر تؤيد المجلس العسكري الانتقالي، واتضح ذلك مع زيارتي رئيس المجلس العسكري، عبد الفتاح البرهان، ونائبه حميدتي إلى القاهرة. ولكن تسلسل تلك المواقف لم يكن محل ترحيب من قوى الثورة السودانية، ولا من قوى المعارضة السودانية في القاهرة، والتي تم التضييق عليها بعد انتفاضة سبتمبر/ أيلول 2013، وحتى سقوط البشير، ولم يكسر هذا الموقف نسبيا لدى بعض القوى السياسية، إلا بعد دعوة القاهرة لمكونات قوى الحرية والتغيير الأساسية للحوار في ما بينها، حول قضايا السلام ومطالب الحركات المسلحة.
استطاعت القاهرة هنا توظيف خبراتها، في ما يخص المفاوضات بشأن عملية السلام في السودان، وعلاقاتها ببعض الحركات المسلحة، ليكون لها دور يسهل تنفيذ اتفاق المرحلة الانتقالية بين المجلس العسكري السوداني وقوى الحرية والتغيير. هذا التطور النسبي لموقف مصر مرتبط بإحساس لدى القاهرة بأنها يجب ألا تبتعد عن ترتيبات المرحلة الانتقالية، وذلك لارتباطه بعدة ملفات، ومصالح مصرية استراتيجية ستتعطل، إذ لم يتم الوصول إلى اتفاق، خصوصا بشأن سد النهضة الإثيوبي، وقضايا الأمن والتعاون الاقتصادي المصري السوداني. كما أن وجود القاهرة يكسر انفراد أديس أبابا بالمفاوضات والحوارات المتعلقة بالمرحلة الانتقالية في السودان، ويعزّز مكانتها لدى مجلس السيادة السوداني (البرهان وحميدتي). وكذلك يعيد التواصل بالقوى السياسية السودانية، وربما يضمن دور مصر مستقبلا في السودان، استدامة مصالحها فيه.
D75BB17B-0520-4715-86EC-B6995DA95615
عصام شعبان

باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة القاهرة، أحد مؤسسي الجمعية الوطنية للتغيير، عضو المجلس الأعلى للثقافة لدورتين متتالتين، عضو شعبة العلوم الاجتماعية. أحد كتاب الرأى في صحيفة وموقع "العربي الجديد".يقول: "نفعل كما يفعل السجناء، نربي الأمل".