عندما وصل ابن خلدون إلى القاهرة في أول ذي القعدة سنة 784 هجري/ كانون الثاني 1383 ميلادي، قادماً من تونس عن طريق الإسكندرية، رأى دار مُلك واسعة الأرجاء بهرته بحسنها وأبّهتها وكثرة دور العلم والعلماء فيها. وقد كان انبهاره مضاعفاً وهو العالم الموسوعي والجوّال والسياسيّ المحنّك الذي قضى عمره يتنقل بين مدن الشمال الأفريقي والأندلس من تونس وفاس وتلمسان وبجاية وغرناطة وغيرها من المدن الصغيرة نسبياً وقليلة الثروة والسكّان ودور العلم، وكتب القسم الأكبر من كتابه المعجز "المقدمة" وهو في شبه عزلة تامة لمدة أربع سنوات في قلعة بني سلامة في الجزائر.
يصف ابن خلدون انطباعه الأول عن القاهرة في السيرة الذاتية التي ألفها كخاتمة لتاريخه، وعنونها بـ "التعريف بابن خلدون ورحلته شرقاً وغرباً"، حيث يقول بعبارات ملؤها الدهشة والإعجاب والإجلال: "رأيت حاضرة الدنيا وبستان العالم ومحشر الأمم ومدرج الذر من البشر، وإيوان الإسلام وكرسي الملك، تلوح القصور والأواوين في جوه، وتزهر الخوانق والمدارس والكواكب بآفاقه، وتضيء البدور والكواكب من علمائه، قد مثل بشاطئ النيل نهر الجنة ومدفع مياه السماء، يسقيهم العلل والنهل سيحه، ويجني إليهم الثمرات والخيرات ثجه، ومررت في سكك المدينة تغصّ بزحام المارة، وأسواقها تزخر بالنعم. وما زلنا نتحدث بهذا البلد وبعد مداه في العمران واتساع الأحوال، ولقد اختلفت عبارات من لقيناه من شيوخنا وأصحابنا حاجهم وتاجرهم في الحديث عنه. سألت صاحبنا كبير الجماعة بفاس وكبير العلماء بالمغرب أبا عبد الله المقري مقدمه من الحج سنة أربعين وسبعمائة فقلت له: كيف هذه القاهرة؟ فقال: من لم يرها لم يعرف عز الإسلام".
ثم يضيف ابن خلدون عبارة رائعة للفقيه أبي القاسم البرجي، قاضي العسكر بفاس الذي أرسله السلطان المريني أبي عنان سفيراً إلى السلطان المملوكي في مصر سنة 756 هجري/ 1356 ميلادي، تفوح منها ملاحظة فلسفية وإدراكية عميقة لن نصادفها كثيراً قبل العصر الحديث وظهور دراسة الخيال بشكل علمي ونقدي: "أقول في العبارة عنها على سبيل الاختصار، إن الذي يتخيله الإنسان فإنما يراه دون الصورة التي تخيلها لاتساع الخيال عن كل محسوس، إلا القاهرة فإنها أوسع من كل ما يتخيل فيه".
هذه الشهادات المغرقة في إعجابها، التي اقتبسها مئات الكتّاب منذ أن سطرتها يد ابن خلدون بحذافيرها وأحياناً من دون نسبتها إلى كاتبها، تحمل في طياتها الصورة الجمعية التي أحرزتها القاهرة في العصر المملوكي في أرجاء العالم الإسلامي، صورة الحاضرة الإسلامية الأوسع والأبهى، والتي ما فتئت تُسترجع اليوم في نصوص تاريخية وروائية عديدة بنفس تذكّري نوستالجي عميق، يخفي في طياته أحياناً حسرة وأسى على حال القاهرة اليوم وحلماً بالعودة إلى الحالة المملوكية أو العصر الذهبي للمدينة والدولة.
فالقاهرة المملوكية كانت فعلاً عاصمة الإسلام الدينية والعلمية والثقافية وإن لم تكن عاصمته السياسية الوحيدة كما كانته بغداد ودمشق في عصورهما الغابرة والزاهية، أو كما أمل الفاطميون عندما أسسوها كعاصمة جديدة لخلافتهم الإسماعيلية المناهضة لخلافة بني العباس عام 969 م. فاستقرار السلطنة المملوكية وازدهارها في نهاية القرن الثالث عشر وبداية القرن الرابع عشر، وخصوصاً خلال حكم الناصر محمد بن قلاوون الطويل (ثلاث فترات بين 1293-1294، و1299- 1309، و1310-1341)، أدى إلى توسع المدينة توسعاً لا سابق له، ولن تبلغه لاحقاً بعد انكماشها إلا في نهاية القرن التاسع عشر على عهد الخديوي اسماعيل.
وقد تنافس أمراء وسلاطين المماليك على بناء المساجد والجوامع والمدارس والخوانق والوكالات والخانات والترب زائدة الأبهة في أرجاء القاهرة، ودعمها بأوقاف هائلة لتمويل صيانتها ودعم النشاطات الدينية والعلمية فيها وإيواء طلابها ومدرسيها وتزويدهم بكل ما يحتاجونه.
ومع أن الفترة التالية لحكم الناصر محمد شهدت تراجعاً في النهضة العمرانية، إلا أن القاهرة في نهاية الفترة المملوكية البحرية (أو التركية بمصطلح العهد) عام 1382، أي سنة قبل وصول ابن خلدون إليها، كانت ما تزال تزهو على مدن العالم الإسلامي بل والغرب باتساعها وثرائها وغنى أسواقها وتعدّد معاهد العلم والتصوّف فيها، مما مكنّها من جذب أهم علماء وأدباء ومؤرخي ومتفقهي ومتصوّفة العصر، إمّا كمدرسين فيها تسبقهم سمعتهم التي أسسوها في بلاد نشأتهم أو كطلبة أو كسعاة للحصول على منصب من المناصب العديدة في الدولة المملوكية التي تطلبت معرفة فقهية أو دينية أو لغوية أو تلك التي اعتمدت على المواهب الإنشائية والكتابية والحسابية لأولئك المتعلمين.
حتى إن القاهرة في نهاية القرن الرابع عشر قاربت أن تفوق بغداد القرن التاسع الميلادي في احتضان وتنمية النشاط الثقافي الإسلامي على الرغم من أن السلطنة المملوكية لم تغط أكثر من جزء صغير من أراضي الخلافة العباسية في عز ازدهارها، وهي بالتالي لم تتمتع بنفس الموارد المادية التي تمتعت بها الخلافة العباسية، ولم يكن لها نفس السمعة الأممية العالمية التي كانت للخلافة العباسية.
وهكذا أصبحت القاهرة كعبة العلم كما لاحظ ابن خلدون الذي يمكن اعتباره هو بالذات من أهم من اجتذبتهم القاهرة إلى معاهدها من علماء المسلمين واحتضنتهم حتى وفاتهم فيها. وقد أضفى الحشد الكبير من العلماء والطلاب والمتصوفين الذين أمّوا القاهرة وسكنوها، بالإضافة إلى التجارة العالمية التي مرّت عبرها أو انتهت إليها، صفة كوزموبوليتانية حقيقية على المدينة، حيث كانت تسمع في سككها وأزقتها وأسواقها ودور العلم فيها مختلف اللغات واللهجات، ولو أن السواد الأعظم من سكانها تكلم العربية.
ولكن معاهد العلم والدين، من مدارس وجوامع وخانقاوات وزوايا، هي التي ثبتت شهرة القاهرة كمدينة العلم الإسلامي الأولى بلا منازع طيلة الفترة القروسطية المتأخرة والتي ما زالت بعض من تأثيراتها محسوسة اليوم بمحافظة المدينة على جزء ضئيل من صيتها كمركز علمي وثقافي، بشكل خاص مع وجود جامعة الأزهر التي نبغ صيتها أول ما نبغ في العصر المملوكي المتأخر فيها، على الرغم من تراجع المدينة معمارياً وعمرانياً وعلمياً وثقافياً وتدهور تراثها المعماري العظيم في نهاية القرن العشرين وصعود غيرها من المدن العربية الغنية، خاصة في الخليج، كمراكز علم ومال واقتصاد وعمران متطوّر.
* مؤرخ معماري سوري وأستاذ كرسي الآغا خان للعمارة الإسلامية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا