القاهرة الخديوية... خطر الاستثمار يهدد مجمع التحرير والمباني المحيطة

22 نوفمبر 2019
مجمع التحرير شهير جداً في مصر(فيرجيني نيغويين هوانغ/فرانس برس)
+ الخط -

في إطار خطة حكومية كبيرة، يجري التحضير لإخلاء مبانٍ تشغلها إدارات رسمية في مصر، أبرزها مجمع التحرير، في وسط القاهرة. لكنّ الخطة تثير مخاوف من احتمال هجوم المستثمرين على مبانٍ تراثية وتحويل هويتها بعيداً عن ذاكرة المواطنين

قبل أيام، كشف أيمن سليمان، الرئيس التنفيذي للصندوق السيادي المصري "ثراء"، عن اهتمام الصندوق بمبنى مجمع التحرير، بعدما ظهر اهتمام أولي من مستثمرين يرغبون في إعادة إدارة المبنى بشكل حضاري بعد إخلائه إدارياً واستغلال الموقع الاستراتيجي. وفي مارس/ آذار 2016، بدأت محافظة القاهرة فعليًا في تنفيذ خطة إخلاء مجمع التحرير، إذ بدأت وزارة التضامن الاجتماعي بإخلاء الإدارات التابعة لها بالمجمع؛ وكذلك مصلحة الجوازات والهجرة لأماكن خاصة بها بأكاديمية الشرطة، في إطار خطة تستهدف بشكل مباشر إخلاء مجمع التحرير الذي يستقطب جمهوراً كبيراً من مختلف أنحاء مصر لقضاء مصالحهم، في سبيل حل الأزمة المرورية وتقليل التكدس المروري في شوارع منطقة وسط البلد.

أضاف سليمان، في تصريحات صحافية، إلى أنّ الصندوق السيادي أنشأ عدة صناديق فرعية على أن يبدأ بثلاثة فرعية تختص بقطاعات السياحة، والصناعة، والطاقة. وأوضح أنّ الصندوق الأول سيختص بقطاع السياحة وتنمية المناطق الأثرية، وسيكون ضمن مهامه العمل على تطوير المناطق الأثرية غير المستغلة وفقاً للقوانين الحاكمة للحفاظ على المناطق الأثرية، وبما لا يتعارض مع الهدف منها والبيئة المحيطة بها.




وسبق لرئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، الإعلان عن تكليف من الرئيس عبد الفتاح السيسي للحكومة بتطوير القاهرة التاريخية، وإخلاء المحافظة من الوزارات والمقرات الإدارية الحكومية في العام المقبل، حتى تعود القاهرة إلى دورها التاريخي والثقافي والسياحي والأثري، إذ جرى تنفيذ عدد من المشاريع الكبرى في المحافظة، والانتهاء من تطوير المناطق العشوائية غير الآمنة. وأكد رئيس صندوق "ثراء" أنّه سيجري طرح العديد من الفرص الاستثمارية في مجال تطوير المناطق الأثرية أو المباني القديمة خلال الفترة المقبلة، ومن ضمنها بعض المباني الخاصة بالأجهزة الإدارية التي ستُنقَل إلى العاصمة الإدارية الجديدة.

مجمع التحرير هو أشهر مبنى حكومي في مصر على الإطلاق، يقع في قلب ميدان التحرير، ولطالما كان يمثل رمزاً للبيروقراطية في مصر في أبهى صورها، تماماً كما رسمه الكاتب والسيناريست المصري وحيد حامد في فيلم "الإرهاب والكباب" عام 1992، من بطولة عادل إمام. المجمّع عبارة عن مبنى مكون من دور أرضي و13 طابقاً تشبه بعضها. وتصل مساحته إلى 28 ألف متر مربع. ويبلغ ارتفاعه 55 متراً، ويضم نحو 1356 غرفة. له مدخلان رئيسيان في المنتصف، ومدخلان جانبيان يميناً ويساراً. ويضم نحو تسعة آلاف موظف حكومي، فيما يزوره يومياً قرابة 30 ألف مواطن. كذلك، فإنّ المجمع يخدم جميع الجنسيات حول العالم، لاحتوائه على إدارات الجوازات والهجرة، لذلك كان مقصداً مباشراً للعديد من المراجعين، ومزاراً إجبارياً لبعضهم. ومنذ إعلان الحكومة عن مخطط إخلائه ونقل العاملين فيه إلى العاصمة الإدارية، لم يجب مسؤول واحد عن سؤال حول "مصير المجمع بعد الإخلاء". ودارت الإجابات جميعها في حيز "الدراسة والبحث"، وهو ما جاء مجددًا على لسان رئيس صندوق "ثراء"، الذي قال عن رغبات المستثمرين في المجمع إنّها "ما زالت مباحثات أولية".



ويختص الصندوق السيادي المصري بإدارة الأصول المملوكة للدولة، ملكية خاصة سيتم نقل تبعيتها إليه، ويبلغ رأسماله المرخص به 200 مليار جنيه (12 ملياراً و413 مليون دولار أميركي)، والمصدر 5 مليارات جنيه (310 ملايين دولار). لكنّ المخاوف من سيطرة "ثراء" على مجمع التحرير وطرحه للمستثمرين، انعكست بالضرورة على عدد كبير من المباني التراثية في قلب العاصمة القاهرة، والجاري إخلاؤها أيضاً على خلفية انتقال الوزارات الشاغلة لقلب القاهرة إلى العاصمة الإدارية الجديدة، وفقاً لقرار اللجنة القومية لتطوير وحماية القاهرة التراثية، التي يرأسها مساعد رئيس الجمهورية للمشروعات القومية، إبراهيم محلب، الذي شكّل لجنة مصغرة لوضع تصور كامل لمباني الوزارات والجهات الحكومية التي ستنتقل إلى العاصمة الإدارية الجديدة، التي تتخذ من تلك المباني الأثرية مقرات لها.

وتضم خريطة مربع الوزارات في حيز القاهرة الخديوية، عدداً من المباني الحكومية المسجلة كآثار، وعددها 6 مبانٍ وهي حالياً مقرات لمجلس النواب والشورى والوزراء، ووزارة الصحة والمباني الملحقة بها، وقصر إسماعيل باشا، والمجمع العلمي، وجميعها في حيز معماري واحد مطل على شارع قصر العيني المؤدي مباشرة إلى ميدان التحرير. كذلك، تشمل خريطة المباني المسجلة كطراز معماري والتي تضم مقرات حكومية، ستة مبانٍ أخرى، وهي مباني وزارات الداخلية والمالية والإنتاج الحربي والتربية والتعليم وملحقاتها والهيئة العامة للطرق والكباري.

وكانت اللجنة القومية لتطوير وحماية القاهرة التراثية، برئاسة إبراهيم محلب، قد شكلت لجنة لوضع تصور للتعامل مع مباني الوزارات والجهات الحكومية التي ستنتقل إلى العاصمة الإدارية الجديدة العام المقبل، خصوصاً أنّ أغلب مباني هذه الجهات مسجلة تراثاً أو مباني ذات قيمة معمارية أو طرازاً حضارياً، وهو ما يتطلب وضع مخطط واضح للحفاظ عليها وتطويرها واستثمارها أيضاً. لكنّ هذه اللجنة وضعت التصورات كافة بدورها، من دون أن تجيب عن سؤال: "ماذا بعد الإخلاء".



وبينما تتجه أنظار المعنيين بالحفاظ على التراث والهوية الحضارية صوب تحويل تلك المباني الأثرية إلى مزارات سياحية ومقاصد فن وتاريخ وحضارة، تتلألأ أضواء تلك المباني في أنظار المستثمرين في صورة مجمعات تجارية ضخمة وفنادق سياحية فاخرة. وتجدر الإشارة إلى أنّ هناك تجربة وحيدة سبق تنفيذها في ما يتعلق بالأصول التاريخية للمباني العريقة بالقاهرة الخديوية، تعود إلى شركة الإسماعيلية للتطوير العقاري، التي استثمرت مبنى سينما قديما في وسط القاهرة، وحوّلته لمسرح عملاق، استغلته بعض البرامج التلفزيونية الشهيرة سابقاً للبثّ منه، إذ جرى تصوير "البرنامج" للإعلامي الساخر باسم يوسف، وبرنامج "أبلة فاهيتا" الكوميدي، قبل أن يتوقف كلاهما عن البث لاعتبارات سياسية. الشركة نفسها سبق لها شراء مقر القنصلية الفرنسية القديم في وسط القاهرة، وحولته إلى ساحة مفتوحة تؤجّر مساحاتها للأعمال الحرة.