القانون الدولي والعنف الجنسي ضد النساء في الحروب

22 سبتمبر 2016

عراقيات نازحات من الفلوجة إلى مخيم (27 يونيو/2016/فرانس برس)

+ الخط -
يعتبر العنف الجنسي ضد المرأة في النزاعات المسلحة الدولية، أو الداخلية، من أبشع الجرائم التي عرفت انتشاراً واسعاً في السنوات الأخيرة، لاسيما في سورية والعراق وفلسطين، حيث أصبح بمثابة إستراتيجية، تستخدمها الجماعات المسلحة، بغية نشر الرعب في أوساط المجتمع وإذلال المعارضين، واستعماله وسيلةً حربيةً شديدة الفعالية، تهدف إلى التعذيب والإيذاء وانتزاع المعلومات والمعاقبة على أفعال حقيقية أو مزعومة تنسب إلى النساء، أو أفراد عائلتهن، أو تستغل النساء جنسياً من رجال العدو، كرد فعل انتقامي على اعتداءٍ مماثل على نسائهم من أعدائهم، كما لا يخفى للعيان أنه يمكن أن يكون الاعتداء على النساء جزءاً من سياسة جهنمية حربية في أثناء الحروب الأهلية بين جماعات دينية مختلفة أو عرقية، بغرض تحقيق التطهير العرقي، من أجل إجبار الناس على تفريغ المنطقة والهروب منها. وبهذا الاستغلال الشنيع للنساء، في أثناء النزاعات المسلحة، تتحول أجسادهن إلى واجهة حرب ومجال لقصف متبادل بين الأطراف المتحاربة.
ويشمل العنف الجنسي كل الأفعال ذات الطبيعة الجنسية المفروضة بالقوة والإكراه، والاغتصاب والاستغلال الجنسي والحمل غير الإرادي وهتك العرض والاتجار بالنساء، والتحرّش الجنسي وأي شكل آخر من أشكال العنف الجنسي، ذات خطورة مماثلة، تتعرّض له النساء، فهو من هذا المنطلق، يكون أخطر الجرائم التي تمس كيان الإنسان. وباعتبار المرأة في المناطق التي تعاني من ويلات الحروب والنزاعات المسلحة هي الضحية الأولى، فإلى جانب اضطرارها إلى اللجوء والهجرة مع أفراد عائلتها، تكون مستهدفةً من الجماعات المسلحة، وتكون أكثر عرضةً للعنف الجنسي، سواء تعلق الأمر بالنساء في مخيم اللاجئين، أو بالنساء الناشطات في مجال الدعم الثوري ضمن وحدات المساندة داخل المعتقلات أو خارجها، كما تتعرّض للعنف الجنسي النساء عند عبورهن الخطوط العسكرية، أو المناطق التي تأثرت بالحرب الأهلية، من أجل السماح لهن بالإقامة في الأماكن الآمنة. لا يقف الحد عند تعرّض المرأة للعنف الجنسي فحسب، بل تتحوّل إلى وصمة عار على العائلة والمجتمع الذكوري الذي لا يرحم، بحكم العادات والتقاليد السخيفة. و ينظر إلى المرأة من زاوية الاحتقار، على الرغم من أنها ضحية لجرائم كانت من إفرازاته الجرثومية، ما يدفع بعض العائلات إلى نبذهن وقتلهن وطردهن من المنازل. وتوجد آثار عرضية أخرى من جرّاء الاعتداء الجنسي على النساء، تتمثل في آثار نفسية أو جسدية أو اقتصادية طويلة الأمد، وانتشار أمراضٍ تنتقل عن طريق الجنس، مثل نقص المناعة المكتسبة (الإيدز)، ما ينتج عنه تفاقم خطر الموت والضعف والوهن بين أوساط النساء. وبالتالي، لا بد من حماية المرأة، باعتبارها العمود الفقري لأي مجتمع، وبانكسار هذا العمود، يتعرّض المجتمع كله إلى حمّى المعاناة.


بنود قانونية دولية
أوْلى القانون الدولي لحقوق الإنسان وقانون الحرب عناية بالغة بتوفير الحماية للنساء، سواء بصفتهن من المدنيين، أو لكونهن أمهات لأطفال وأولات أحمال بشكل خاص، كما تكفل أيضاً بحمايتهن، عندما يكن مقاتلات ومشاركات في العمليات العدائية، وتجريم كل صور العنف ضد المرأة، باعتبارها مسألة إنسانية مهمة، تمس الدين والشرف والعرض والقيم الأخلاقية. وقد عنيت اتفاقيات جنيف لسنة 1949، وبروتوكولاها الإضافيان لسنة 1977، بتوفير مثل هذه الحماية، حيث أكّدت المادة 14 من اتفاقية جنيف الثالثة على أن النساء تعامل بكل الاعتبار الخاص الواجب إزاء جنسهن، ويقصد بعبارة (بكل اعتبار)، أي ضعف جسديٍ، أو الشرف والحياء والحمل والأمومة. وأشارت المادة 27 من اتفاقية جنيف الرابعة إلى الحماية الخاصة للنساء ضد أي اعتداءٍ على شرفهن، لاسيما الاغتصاب والإكراه على دعارة، وأي هتك لحرمتهن. وتعتبر هذه المادة أول النصوص والأحكام الخاصة بالاغتصاب، حيث اعتبرته غير مقبول في فترة النزعات المسلحة، إلا أنها لم تعترف بجسامة (وخطورة) المشكلة التي قد تعتبر النساء حال الاعتداء عليهن بمثل هذه الأفعال.
وحظرت المادة الرابعة من البروتوكول الثاني الخاص بالنزاعات المسلحة الداخلية انتهاك الكرامة الإنسانية، وخصوصاً المعاملة المهينة والمحطّة في قدر الإنسان والاغتصاب والإكراه على الدعارة، وكل ما فيه خدش للحياء، وفيما يخص حماية النساء المقاتلات، فقد أكدت المادة 108 من اتفاقية جنيف الثالثة أنه يجب أن تحتجز أسيرات الحرب اللاتي يقضين عقوبة تأديبيةً في أماكن منفصلة عن الرجال، ويكون الإشراف عليهن من النساء. وعليه، تتمتع النساء اللاتي حرمن من حريتهن، لأسباب تتعلق بالنزاع المسلح، بحمايةٍ خاصةٍ باعتبارهن أسيرات حرب، نظرا للاعتبار الخاص الذي يجب إيلاؤه لهن يترجم إلى قواعد تتعلق بمراعاة الخصوصية الفيزيولوجية للنساء. ويكون ضماناً لهن، بعدم تعرضهن إلى الاعتداء والتحرش الجنسي، على الرغم من أن اتفاقيات جنيف لسنة 1949 تمثل تقدماً نوعياً في مجال حماية النساء من الانتهاكات الجنسية، نتيجة التجاوزات التي لاقتها النساء، في أثناء الحرب العالمية الثانية، إلا أنها تحتاج تنقيحاً من جانب إدراج معايير حديثة العهد، تتعلق بالعنف ضد النساء زمن النزاعات المسلحة، مع مراعاة خصوصياتهن التكوينية والاجتماعية، وحمايتهن من الأخطار والمآسي التي قد تنجر عن العمليات العدائية.

"الجنائية الدولية"
يشكل نظام المحكمة الجنائية الدولية بادرةً فريدة من نوعها في عالم القضاء الدولي، فيما يخص حماية النساء من العنف الجنسي الذي يتعرّضن له في الحرب، أخذاً في الاعتبار تجربة المحكمتين الجنائيتين الدوليتين ليوغسلافيا السابقة ورواندا، وما تمخض عنهما من عمل واجتهاد قضائي خلاق في مجال حماية النساء، زمن النزاعات المسلحة، فقد اعتبرت المحكمة أن الاغتصاب، أو الاستعباد الجنسي، والإكراه على البغاء، أو الحمل القسري، والتعقيم القسري، وأي شكل آخر من أشكال العنف الجنسي، ذات خطورة تماثل جرائم ضد الإنسانية، وفقا للمادة السابعة من نظام روما الأساسي، شريطة أن تندرج بوصفها جزءاً من هجوم واسع النطاق، أو منهجي، ضد السكان المدنيين، وأن يكون هناك علم بالهجوم. وقد صنفت الأفعال على أنها جرائم حرب، طبقا للمادة الثامنة من النظام نفسه، وما يثير الاستغراب أنه، على الرغم من خطورة جريمة الاستعباد الجنسي الذي يفرض فيه الطرف المستعبد على الطرف المستعبَد القيام بممارسات جنسيةٍ مختلفة، وكذا جريمة الإكراه على البغاء التي تقوم على إرغام شخصٍ تحت طائلة القوة والتهديد على ممارسة أفعال جنسية، إلا أنه لم يسبق الإشارة إليهما من قبل، في أي مواثيق دولية، على أساس أنها جريمة حرب أو جريمة ضد الإنسانية. وقد تدارك نظام المحكمة الجنائية الدولية هذا النقص، كما أن جرائم العنف الجنسي لم يتم حصرها قي إطار المحكمة، وإنما ترك المجال مفتوحاً، بإضافة أي فعل آخر، من قبيل عنف جنسي، بحيث تملك المحكمة الجنائية الدولية السلطة التقديرية على تكييف أي فعل مرتكب بأنه يدخل في نطاق الجرائم الجنسية التي تدخل في اختصاصها، معتمدةً على معيار مدى تأثير هذا الفعل المرتكب على شرف الضحية وكرامتها، ما يشكل حمايةً أوسع لضحايا العنف الجنسي، خصوصا النساء، باعتبارهن أكثر عرضةً لمثل هذه الأفعال الشنيعة التي لا يقبلها العقل ولا المنطق.

لا شك في أن استمرار العنف الجنسي ضد النساء زمن النزعات المسلحة لا يرجع إلى ضعف القانون الدولي الإنساني، بل يحمل، في طياته، ترسانة من النصوص الضامنة لحماية المرأة، لكن المشكلة في عدم التزام فرقاء النزاعات المسلحة بتطبيق هذه النصوص، وخصوصا أن معظم هذه النزاعات أصبحت داخلية، تحدث في دول تكون النظرة فيها للمرأة تقليدية، واحترام القانون فيها، وإن كان دولياً خاصاً بالدولة، أو دولياً عاماً ضعيفا أصلا.

الحاجة إلى استراتيجية
ومن أجل القضاء على العنف ضد النساء، لا بد من وضع استراتجية واضحة على مستوى المحافل الدولية، أو المنابر الإقليمية، انطلاقا من مبدأ أن التنمية والسلام يقتضيان العدل بين الجنسين. ولا يقف الحد عند تطوير القواعد القانونية الدولية المتعلقة بحماية النساء، بل لا بد من وضع آليات تنفيذ هذه القوانين في الواقع، لاسيما على صعيد المحكمة الجنائية الدولية التي على عاتقها دور مستقبلي مركزي في وضع حد للعنف الممارس على النساء. وثمّة وجه آخر، فيما يخص آليات الحد من العنف ضد النساء، يتمثل في رفع مستوى الإدراك والالتزام باتخاذ تدابير تشريعية وتنفيذية وقضائية على مستوى الداخل. لذا، على الدول أن تقوم بمواءمة قوانينها الداخلية وتكييفها لتنسجم مع أحكام وقواعد القانون الدولي المتعلقة بحماية المرأة من كل أنواع العنف، وخصوصاً العنف الجنسي، ومساءلة مرتكبي مثل هذه الجرائم بتسليط أشد العقوبات، ليكونوا عبرة لكل من تسول له نفسه ارتكاب مثل هذه الجرائم. وإلى جانب ذلك، لا بد من إعطاء دور للمرأة في صنع القرار ورسم السياسات والبرامج الوطنية من خلال توفير البنى التحتية الملائمة لنمو المرأة وتطورها، وتمكينها من كل الجوانب الحياتية وإشراكها في الآليات الدولية والإقليمية والوطنية لمراقبة مدى تنفيذ الاتفاقيات والاستراتجيات الهادفة إلى تعزيز دورها وحمايتها من كل أشكال العنف. ولا يقف الحل عند هذا الحد، بل لا بد من زيادة تمثيل المرأة في الهيئات القضائية، بما فيها المحاكم الدولية.



752CF8D7-AB2C-432E-A34D-570C2222E5BC
752CF8D7-AB2C-432E-A34D-570C2222E5BC
سامية صديقي

باحثة جزائرية في القانون الدولي، أستاذ مساعد في كلية الحقوق والعلوم السياسية في جامعة سطيف.

سامية صديقي