القابلية للاستبداد والمدرسة الخلدونية

11 أكتوبر 2019
+ الخط -
حينما شرع صاحب هذه السطور في كتابة هذه السلسلة من المقالات عن الاستبداد، لم يجد أفضل من ابن خلدون يعقد له عمادة هذه المدرسة الجامعة؛ وحينما أراد الكتابة عن الظاهرة الاستبدادية والقابليات المتعلقة بها تزاحمت كتابات ومؤلفوها كلهم اعتمدوا مفهوم القابلية التي تستند إلى مقولة ذهبية أطلقها المفكر الجزائري، مالك بن نبي، في عديد من كتبه؛ "الاستعمار والقابلية للاستعمار"؛ تلك المقولة الذهبية التي تشير إلى معنى الظاهرة والقابلية لها، سواء أكانت الظاهرة سلبية أم إيجابية، فلكل ظاهرة قابلية، للاستبداد كما للحرية؛ للفساد كما للإصلاح، للثورة والتغيير كما للخنوع للأمر الواقع والاستسلام. وكتب بن نبي أيضا في كتابه "الصراع الفكري": "الاستعمار قد جاء إلى العالم الإسلامي نتيجة مرض أساسي عندنا، هو القابلية للاستعمار.. وهو نتيجة الصراع الفكري الذي خطط له الاستعمار وأحسن إحكام الخطة.. لقد سلط الاستعمار الأضواء على المشكلات الهامشية، بينما ترك في الظلام كل رؤية منهجية سليمة.. تفتح الطريق أمام حركة التاريخ". كما أكد مالك بن نبي على المفهوم نفسه في كتاب "شروط النهضة"، حيث تحدث عما يسمّيه "معاملين" فعلا فعلهما في الإنسان المستعمَر: "المعامل الاستعماري" و"معامل القابلية للاستعمار". 
عبد الرحمن الكواكبي ومالك بن نبي رحمهما الله علمان بارزان في فكرنا الإسلامي. درسا 
الوضع الاجتماعي للأمة، وحاولا تشخيصه واستخلاص السنن والقواعد الحاكمة للسلوك البشري الاجتماعي. إنهما يقعان في المدرسة الخلدونية المشار إليها. وسنجد معنى القابلية الذي صكه مالك بن نبي عند ابن خلدون، عميد هذه المدرسة المتميز، والذي تحدث عن "تقليد المغلوب للغالب"، وجعل ذلك من قواعد السلوك التي تتبعها أي أمة مغلوبة، فهو يكتب في "مقدمته" الفصل الثالث والعشرين "المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب، في شعاره وزيه ونحلته، وسائر أحواله وعوائده؛ والسبب في ذلك أن النفس أبدا تعتقد الكمال في من غلبها وانقادت إليه.. أو لما تراه والله أعلم من أن غلب الغالب ليس بعصبية ولا قوة بأس، وإنما هو بما انتحله من العوائد والمذاهب...". ربما يكون تحليل ابن خلدون ليس محيطاً بالظاهرة من جميع جوانبها، إلا أنه ليس كل مغلوبٍ مولعاً أبداً بتقليد الغالب، فهناك من المغلوبين من يقاوم الغالب ويغالبه، حتى ينتصر عليه ويتحرّر من ربقته. وهذا يضع قيدا على اضطراد القاعدة عند ابن خلدون وشموليتها. ولكن يمكن القول باضطراد النظرية، لو أن باحثاً حرّر مقصد ابن خلدون من الغلبة وملاحظة شرط الولع الذي أكد عليه في ذلك القانون، فإذا كان مقصده بالغلبة الهزيمة الداخلية، فلا شك أن نظريته تضطرد، وهنا يلتقي مع ما ذكره مالك بن نبي عن القابلية للاستعمار.
كما يشير ابن خلدون إشارة فريدة ومهمة عن نمط التربية كإحدى أهم القابليات الخطيرة التي تحكم العلاقة بين تربية القهر وتفشي أخلاق الاستبداد "من كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم سطا به القهر، وضيّق على النفس في انبساطها، وذهب بنشاطها، ودعاه إلى الكسل، وحُمِلَ على الكذب والخبث، وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفـًا من انبساط الأيدي بالقهر عليه، وعلّمه المكر والخديعة لذلك، وصارت له هذه عادةً وخُلُقـًا، وفسدت معانى الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمرّن، وهي الحَمِية والمدافعة عن نفسه ومنزله، وصار عيالاً على غيره في ذلك، بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخُلُق الجميل، فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها، فارتكس وعاد في أسفل السافلين". ما ينطبق على كل من هم موضع التربية التي تتسم بالقهر والاستبداد والعسف ينطبق على الأمم، فالتربية، في حقيقة أمرها، ليست تربية لشخوص وأفراد، وإنما هي تربية للأمة واجتماعها، تربية جمعية ومجتمعية، حينما يشير إلى خلق الاجتماع ومعانى الإنسانية، فيكون هذا النكوص في الهمم والأخلاق بعيدا عن معاني الإنسانية. وهذا هو شأن كل أمةٍ تتمكّن منها مسيرة العسف والقهر، وتمكّنت منها طبائع الاستبداد وألوان من الاستعباد، فإن سويتهم التربوية والمجتمعية والذهنية والأخلاقية سوف تكون في أدنى دركاتها، وشتان بين قابليات الحرية وإرادة الإنسان وبين قابليات الاستعباد والطغيان.
على الطريقة والنهج نفسه، عقد عبد الرحمن الكواكبي فصلا في العلاقة بين "الاستبداد والتربية"، فيقول مستهلا بنظرات فاحصة وعميقة في القابليات المقترنة بالعمليات والأنماط التربوية "خلق الله في الإنسان استعدادا للصلاح واستعدادا للفساد، فأبواه يصلحانه وأبواه يفسدانه. أي أن التربية تربو باستعداده جسما ونفسا وعقلا إن خيرا فخير وإن شرا فشر. وقد سبق أن الاستبداد المشؤوم يؤثر على الأجسام فيورثها السقام، ويسطو على النفوس فيفسد الأخلاق، ويضغط على العقول فيمنع نمائها بالعلم. بناء عليه تكون التربية والاستبداد عاملين متعاكسين في النتائج، فكل ما تبنيه التربية مع ضعفها يهدمه الاستبداد بقوته، وهل يتم بناء وراءه هادم.. والاستبداد ريح صرصر فيه إعصار يجعل الإنسان كل ساعة في شأن، وهو مفسد للدين في أهم قسميه أي الأخلاق، وأما العبادات فلا يمسها لأنها تلائمه في الأكثر".
وها هو ينعى على هؤلاء الذين يقتطعون المقولات من سياقاتها ويسوقونها على صعيد غير الذي وردت فيه، ويتناسون، عن عمد وفي اختزال وإغفال متعمد، وبتأويل فاسد يتناسب مع مقولات 
طبائع الاستبداد المؤدية إلى مصارع الاستعباد "الأسير المعذب المنتسب إلى دين يسلي نفسه بالسعادة الأخروية، فيعدها بجنان ذات أفنان ونعيم مقيم أعده له الرحمن، ويبعد عن نفسه أن الدنيا عنوان الآخرة، وأنه ربما خاسر الصفقتين. ولبسطاء الإسلام مسلياتٌ أظنها خاصة بهم، يعطفون مصائبهم عليها، وهي على نحو: الدنيا سجن المؤمن، المؤمن مصاب، إذا أحب الله عبدا ابتلاه، هذا شأن آخر الزمان. ويتناسون حديث "إن الله يكره العبد البطال"، و"إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيل فليغرسه"، ويتغافلون عن ذلك النص القاطع المؤجّل قيام الساعة إلى ما بعد استكمال الأرض زخرفتها وزينتها". وفي عبارةٍ كواكبيةٍ جامعةٍ مانعة، وعلى الطريقة والمنهاجية الخلدونية، فإن "الاستبداد يضطر الناس إلى استباحة الكذب والتحيل والنفاق والتذلل وإماتة النفس ونبذ الجد وترك العمل".
وقد اتضح أن التربية غير مقصودة، ولا مقدورة في ظل الاستبداد، إلا ما قد يكون بالتخويف من القوة القاهرة. وقد أجمع علماء الاجتماع والأخلاق والتربية على أن الإقناع خير من الترغيب، فضلا عن الترهيب، وأن التعليم مع الحرية بين المتعلم والمتلقي أفضل من التعليم مع الوقار.. أخيرا ينهي الفصل بنتيجة: "إذا كان لا مطمع في التربية العامة على الأصول الحميدة بمانع طبيعة الاستبداد؛ فلا يكون لعقلاء المبتلين به إلا أن يسعوا، أولا، وراء إزالة المانع الضاغط على العقول؛ ثم يعتنوا بالتربية، حيث يمكنهم حينئذ أن ينالوها على توالي البطون (والأجيال)". إنها قابليات الاستبداد التي تمكّن له؛ وأنماط تربية تقع بين تربية القهر والعسف والاستبداد والاستعباد، وتربية تعتمد الحرية والكرامة والإرادة والاستقلال.
ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".