الفن السابع عربياً: استشراق داخلي

16 يونيو 2020
السينما العربية لا تخلو من العنصرية(Getty)
+ الخط -
إذا لم يسلم تناول صورة العربي من تمثّلات عنصرية في سينما الغرب، امتداداً لرؤية استشراقية واستعمارية راسخة، فإنّ السينما العربية لا تخلو بدورها من أنساقٍ تترجم نظرة محقّرة لبعض الأقليّات. الأمر يمتدّ من التناول الموغل في النمطية لشخصيات تنتمي إلى أقلية عرقية معيّنة ـ على غرار شخصية البوّاب السوداني في أفلام كلاسيكية مصرية، ما يجد تفسيره في النظرة السائدة حول هذه الأقلية في فترة إنتاج الأفلام المذكورة ـ إلى المواقف والعبارات التي تطبع تعامل بعض نصوص السينما الكوميدية المغربية، مثلاً، مع الشخصيات ذات البشرة السوداء عموماً، ومع المهاجرين المتحدّرين من أفريقيا ـ جنوب الصحراء خصوصاً.

لكنْ، كالعادة، حين يتعلّق الأمر بأسئلة مرتبطة بالفنّ والمعالجة التمثّلية، فهذا أعقد من أن يُصنّف بشكلٍ بسيط، إذْ إنّ هناك تخوّفات مُحقّة من أن يؤدّي الإمعان في رسم خطوط حمراء أمام خطاب الأفلام إلى سدّ الأبواب أمام التناول الجريء، بدعوى تلافي شبهة العنصرية، ما يساهم في إنتاج سينما ملساء، وأفلام تتشابه في تسطيحها ومهادنتها، خصوصاً في ما يتعلّق بنقد الأقليات. فالسينما، في نهاية المطاف، مرآة توضَع أمام الجميع، حتّى إنْ اقتضى الأمر أنْ يكون انعكاس الصورة غير سارّ للأنظار، وصادم أحياناً.
ينبغي القول إنّ الخيط رفيعٌ أحياناً بين الانتقاد اللاذع وغير المهادن، والأنساق المذلّة التي تحطّ من فئة بعينها، رابطةً انتماء شخصية إلى عرق معيّن بتصرّفاتٍ تُترجِم فكرة دونية هذا الأخير، مقارنةً بالعرق المهيمن. فالسينما، بحكم طبيعتها البلاغية والأنطولوجية (علاقة لصيقة بمعنى الوجود)، تُعدّ من أهمّ وأقوى وسائل خلق التصوّرات والأحكام في أذهان البشر وضمائرهم، حول أقرانٍ لهم ذوي انتماءات عرقية أخرى. وبقدر ما تحمل هذه التّمثلات قيم الحبّ والمساواة والتسامح، بدل الاحتقار والحقد والتّفرقة، يُصبح العالم بالضرورة مكاناً أفضل للعيش المشترك.

آموك
نتذكّر "آموك" (1983) للمغربي سهيل بنبركة، المقتبس عن رواية آلان باتون المشهورة "ابكِ يا بلدي الحبيب"، حول رحلة مدرّس قروي، منتصف القرن الماضي، وسط جوهانسبورغ، المثخنة بجراح التفرقة العنصرية والجرائم بحقّ المواطنين ذوي البشرة السوداء. وذلك بمشاركة ميريام ماكيبا وأغانيها، التي تبثّ القشعريرة في المُشاهدين. حقّق الفيلم نجاحاً كبيراً وانتشاراً دولياً، وظلّ لأعوامٍ ضيفاً معتاداً على برامج عشرات القنوات التلفزيونية، احتفاءً بذكرى اندحار نظام الـ"آبرتايد" في جنوب أفريقيا. هناك أيضاً تقليد راسخ في السينما الفلسطينية والعربية يتجسّد في فضح ممارسات الاحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، التي تنبني ـ في جزء كبير منها ـ على تمييز عنصري واضح، سواء من خلال دراما واقعية، كأفلام هاني أبو أسعد، أو عن طريق رؤية تأملية ساخرة، كما يفعل إيليا سليمان.

ثورة الزنج
هناك أيضاً "ثورة الزنج" (2013) للجزائري طارق طاقية، الذي يقدّم ـ من خلال التاريخ (رحلة ابن بطوطة وثورة العبيد على الخلافة العباسية في القرن التاسع، ومحطات أخرى) ـ قصيدة شعرية خلّابة، في طياتها قراءة بليغة في حاضر الخيبات التي تنخر العالم العربي، من دون أن تغفل القبض على بعض معاقل الأمل ببعث القوى الحيّة المتبقيّة من رمادها.
أما في "الجاهلية" (2018) لهشام العسري، (الجزء الأخير من "ثلاثية الكلاب")، فنكتشف ـ في إحدى قصصه الستّ، المترجمة كلّها بتعبيرات معاصرة عن علاقات تحاكي الاستعباد في المجتمع المغربي ـ قصّة شاب متيّم بفتاة سمراء، يصطدم برفض والدها فكرة ارتباطها بشابٍ ذي بشرة بيضاء، فيقرّر صبغ وجهه بالأسود، قبل التقدّم لخطبتها. فكرة ذكية تعكس، وفاءً لأسلوب المخرج المعروف بنقده اللّاذع، بعَكْسِ صورة العنصرية الاعتيادية، ليعبّر بشكل ساخر وصارخ عن عبثية الحكم على الناس انطلاقاً من لون بشرتهم.
تُعبّر هذه الأمثلة عن أشكال مختلفة من التناول، يمكن اعتبارها سبيل القطيعة مع فكر العنصرية. أسلوب ملتزم، يلخّص الواقع التدميري للعنصرية على الفرد والمجتمع من جهة، والطرح الذكيّ والجريء، الذي يتّخذ من الشعرية والسخرية وسيلة لتفكيك أفكار التمييز العنصري وزعزعتها، من جهة أخرى، بدلاً من أن تكون مطيّة لإعادة إنتاجها وترسيخها. ولعلّ الحلّ يكمن في تلمّس نظرة مركّبة وخلاّقة، ترفض الاستسهال والقوالب الجاهزة.

كلب أبيض
ختاماً، مقتطف من "كلب أبيض" (1970)، رواية رومان غاري التي اقتبسها صامويل فولر للسينما عام 1982، في فيلم بالعنوان نفسه، لم يلق الاهتمام الكافي. تتعلّق الرواية/ الفيلم بـ" أفضل صديق للإنسان"، ملتقطةً همجية الأنساق العنصرية، ووحشية انعكاساتها على الأحياء جميعهم: تكتشف ممثلة هوليوودية، في عزّ فترة نضال الأفروأميركيين من أجل حقوقهم المدنية، أنّ الكلب الذي تحاول تربيته أنشئ على كره السود ومهاجمتهم، فيتولّد لديها تساؤل محيّر عمّا إذا كانت العنصرية شرطاً غير قابل للشفاء، أم مجرّد سلوك مُكتَسب، يمكن تجاوزه عبر التهذيب والتقويم. عبارة تلخّص أيضاً، نوعاً ما، مفارقة تلافي فخاخ العنصرية، من دون التنازل عن شراسة انتقاد الواقع، ملح الفنون كلّها ومنتهاها: تريدون الإجهاز على الظّلم، لكنكم تنتهون بقتل الإنسان.
كتب ألبير كامو أنّ الجاني يُحكَم بالإعدام، لكنْ من يُعدم بالرصاص هو دائماً بريء. دائماً هذه المعضلة الجهنّمية: كيف نحبّ الكلب ونرفض، في الوقت نفسه، فظاعات الكلبيّة.
المساهمون