الفلوجة ورداء "داعش"

14 ابريل 2016
+ الخط -
أسقطت المقاومة العراقية المسلحة، في 2 أكتوبر/ تشرين الأول عام 2003، مروحية شينوك أميركية في الفلوجة، أفضت إلى مقتل 16 جندياً أميركياً، وفي 31 مارس/ آذار 2004، وفي الفلوجة أيضاً، تمت عملية قتل أربعة من حراس شركة "بلاك وتر" الأميركية وموظفيها، وتم سحل جثثهم في الشوارع وحرقها، ثم تعليقها على جسر المدينة. دفع هذان الحادثان الرئيسان قوات الاحتلال الأميركية للقيام بحملة مكثفة من القصف الجوي على الفلوجة، تسببت بقتل مئات من أهاليها المدنيين، وتحججت، حينها، بأنها تستهدف تنظيم القاعدة. وبالطبع، هيأت القوات الأميركية، وبمساعدة الجيش الجديد المنشأ، من متطوعي المليشيات الشيعية، لحملة برية استهدفت السيطرة على المدينة وإفراغها من خلايا المقاومة العراقية المناهضة للاحتلال، إضافة إلى مقاتلي "القاعدة"؛ وتمثلت هذه التهيئة بقطع التيار الكهربائي والمياه عن المدينة، وبقصفٍ مركّز استمر أكثر من خمسة أشهر متواصلة، كان من ضمن ما استهدفه المستشفيات والمراكز الطبية، حتى إن صحيفة ذا اندبندت البريطانية ذكرت، عام 2005، أن دليلا قويا أثبت أن الولايات المتحدة أسقطت كميات كبيرة من الفوسفور الأبيض على الفلوجة، وتسببت الحملة بنزوح آلآف من أبناء المدينة إلى مدن محافظة الأنبار الأخرى، وإلى العاصمة بغداد.
وسمح، في منتصف ديسمبر/ كانون الأول 2004، للنازحين من سكان الفلوجة بالعودة إلى منازلهم، بعد إجراء تدقيقات من القوات الأميركية على تفاصيل كل شخص ثم تزويده ببطاقة شخصية خاصة، من هذه القوات للدخول إلى المدينة. لكن؛ ولأن كثيرين من أبناء الفلوجة كانوا ضد الاحتلال الأميركي وضد الجيش "الجديد" الذي كان يقاتل دفاعاً عن هذا الاحتلال، وأيضا خدمة للولوج الإيراني في القضية العراقية بشكل متصاعد، فقد استمرت المنطقة تمثل نقطة ساخنة وخطيرة، وفق كل الاستراتيجيات العسكرية الأميركية والعراقية الرسمية، حتى توجت سخونتها من جديد في 28 ديسمبر/ كانون الأول 2004، حين نشرت جماعة مسلحة شريطاً يظهر إعدام 20 من أفراد الحرس الوطني العراقي في الفلوجة، بتهمة القتال إلى جانب الجيش الأميركي، فعادت الفلوجة تحت مظلة القصف والاجتياح تحت ذريعة واحدة هي "القضاء على تنظيم القاعدة"، وعادت رحلة النزوح المدني الجمعي لسكانها هرباً من جحيم القصف والحصار.
في عام 2006-2007، وبعد تشكيل قوات "الصحوات" من بعض العشائر العربية في الأنبار، انحسر دور القوى المسلحة في المحافظة، ومن ضمنها القاعدة، ما دفع القوات الأميركية لإنهاء وجودها في المدينة في 18 مايو/ أيار 2008، وعاد أكثر من 180,000 شخص من النازحين إلى الفلوجة، لتبدأ مرحلة البناء وإعادة إعمار ما دمرته حروب استهدافها بين عام 2003 و2007، ثم عادت في فترة حكم نوري المالكي، عبر تبنيها الاعتصامات السلمية المطالبة بإطلاق سراح المسجونين من دون محاكمات والنساء المعتقلات، وغيرها من المطالب الدستورية و"السلمية"، لكن المالكي لم تغادره طبيعة الفلوجة التي اقترنت، منذ الاحتلال، بالقدرة على رفض كل ما يمس الوطنية العراقية وشرف المواطنة بكل الوسائل، فخرج عليهم مهدداً بكلمته المشهورة "انتهوا قبل أن تُنهوا".
في عام 2014، وبعد أن تسببت سياسة المالكي الطائفية والإقصائية وسوء تقدير الموقف، أو
سوء إدارته، في سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية على أهم محافظات العراق (الموصل) ثم صلاح الدين وأجزاء واسعة من الأنبار، كان التنظيم قد تمكنّ من دخول قضاء الفلوجة بعدد محدود من المقاتلين، وبات القضاء بحكم سطوته عسكرياً وأمنياً، إلا إن اللافت حجم القلق الذي انتاب الإدارة العراقية بشأن هذا الموضوع تحديداً. وفي حين عالجت تشكيلات الحشد الشعبي والقوات العراقية والتحالف الدولي مناطق وجود التنظيم بشيء من السياقات العسكرية المعروقة، لجأت في الفلوجة إلى أساليب غير إنسانية، كان إطارها العام هو العقاب الإنساني لشعب المدينة، من خلال حصار شديد جداً تجاوز عامه الثاني لنحو 150.000 مدني، غالبيتهم من الأطفال والنساء والعجزة، وهو ما أفقد المدينة كل مقومات الحياة ودخولها في حالة نقص حاد في المواد الغذائية والأدوية والمستلزمات الطبية، بشكلٍ أوجد نظاماً جديداً ابتكره الفلوجيون، لتخليص أبنائهم وأنفسهم من حالة الجوع والتدهور الصحي، ذاك هو الانتحار العائلي أو الشخصي، من دون أن يحرك ذلك شيئاً من واقع المسؤولية الأخلاقية والدستورية للمسؤولين العراقيين.
الفلوجة، إذن، "تقتل جوعاً"، وأهلها، بحسب مفتي الديار العراقية، الشيخ رافع الرفاعي، محاصرون بين الميليشيات و"داعش"، ويموت أطفال الفلوجة جوعاً، وما من مغيث، كما أن القصف المستمر على المدينة لا يستهدف إلا المدنيين. وعلى الرغم من قدرة كل الأطراف المحاصرة للفلوجة على إيصال المواد الغذائية والطبية للمدينة وأبنائها، سواء عن طريق الجو، أو عبر منافذ آمنة تسمح بمرور قوافل الإغاثة أو نزوح المدنيين، إلا أن أياً من هذه الأطراف لا يزيد من حالة الفلوجة إلا القتامة والمزيد من الموت، في محاولة منهم (وهو ما يسوقونه من عذر أو حجة) لإخضاع تنظيم داعش الذي يتخذ من سكان الفلوجة دروعاً بشرية له.
الفلوجة، إذن، وبعد تصديها لمعركتين أميركيتين شاملتين، تلقت في أثنائهما أطناناً من القنابل والضربات الإجهاضية بالأسلحة غير التقليدية (الفسفور الأبيض وغيره)، والتي أسفرت عن تدمير المدينة وانتشار الأمراض والتشوهات الخلقية الغريبة، بذريعة وجود "القاعدة" فيها، تعود اليوم لتلقي الضربات نفسها، ولتدخل نفق الموت من جديد، عبر واجهة جديدة اسمها "داعش"، فيما لم يرحب سكان الفلوجة بمسلحي هذا التنظيم، ولم يقاتلوا معهم، وترقص الإدارة السياسية في بغداد على أنغام هذه الضربات، وتتريث كثيرا في إطالة أمد الحصار وشدة القصف بكل أنواعه على شعب كامل يرزح تحت سلطة هذا التنظيم، ولا يملك خيارات الخروج من مدينته (بإرادة حكومية)، ولا الانضمام للتنظيم؛ لتقاطعه معه في أسلوب إدارة القضاء وطريقة تعامله مع أضداده، ولا يجد أمامه غير الموت؛ حيث سكت ضمير العالم وشاشاته عن رصد ما يجري في المدينة الباسلة.
F51601CD-AABE-44C5-B957-606753EEC195
فارس الخطاب

كاتب عراقي مقيم في لندن