15 نوفمبر 2024
الفساد طريق إلى الظلم والاستبداد
هناك أسماء في مدرسة ابن خلدون ستكون تتلمذت على يديه بشكل مباشر، تحدثت بلغته، واختطت منهجه، والتزمت أسلوبه. وحضرت عناصر ومستويات عدة في فهم تمكّن شبكة الفساد والظلم والاستبداد، وقابليات تمكّنها في أركان المجتمع وزواياه؛ منها ما يتعلق بالسلطة، ومنها ما يتعلق بالمجتمع. وحال الفسق التي تعمّ المجتمع تشير إلى الفساد الظاهر، وعملية تأسيسه داخل المجتمع، الفساد يصير بذلك مؤسّساتيا تحرك شبكية وتقارنها شبكية الاستبداد، إنها عناصر متداخلة تستحق وفقًا لهذا التصور مقياسًا شبكيًا يليق بهذه المجالات واستطراقها مع بعضها بعضا، (نصوص ابن خلدون، وكذا نصوص مهمة للمقريزي وابن الأزرق). ضمن هذه الرؤى الشبكية، تأتي محاولة محمد بن أحمد الأسدي في كتابٍ سماه "التيسير والاعتبار والتحرير والاختبار فيما يجب من حسن التدبير والتصرف والاختيار" (صدر عن دار الفكر في القاهرة، 1968). وتؤكد ملاحظة العنوان معاني يتصدّرها الاعتبار الواجب بخبرات الأمم السابقة بشأن "العدل" و"الفساد"، ويختتمها بعمليتين: التدبير السياسي والتصرف، واتخاذ القرار.
تعرّضت مصر لأزمات اقتصادية عديدة في أثناء الحكم المملوكي، أدت إليها مجموعة من الأسباب، منها فيضان النيل المدمّر أو نقصانه، أو بسبب عوامل جوية وآفات زراعية، وهذه تعتبر عوامل خارجة عن إرادة السلاطين، ولكن بعض الأزمات كانت تعود إلى سوء الحكام وفسادهم وطغيانهم وظلمهم واستبدادهم. وكانت هذه الأزمات تلقي بظلالها على كل من الحكومة والشعب، وكانت أشد وطأة على الشعب الذي كان يشتد عليه الضيق والضنك، حيث كانت الحكومة تحاول الخروج من هذه الأزمات، من خلال اللجوء إلى الإجراءات التعسفية من فرض الضرائب والمكوس، وهذا كان يجعل الشعب يعاني أشد المعاناة من وطأة هذه الأزمات التي كانت تجعله يعاني دائما العسر المالي والضيق المعيشي.
ويلاحظ أن الأزمات التي يتعرّض لها عموم الناس والرعايا، تعود، في جزء كبير منها، إلى
سوء الحكم وفساده، واضطراب الإدارة الحكومية، واهتمام السلطان وكبار رجال الدولة الذين ينهضون بتصريف شؤون الدولة بمصالحهم الخاصة، وإعطائها الأولوية على الصالح العام ومصلحة الدولة وانصرافهم إلى جمع الأموال من أي طريق. وهذا كان يدفعهم إلى التغاضي عن ممارسات فاسدة كثيرة فتحت الباب للمستغلين من أمراء وموظفين وتجار، للكسب غير المشروع والإثراء. وكان هذا على حساب الشعب الذي تم تركه من دون رعاية لمصالحه، أو اهتمام بشؤونه، الأمر الذي أدّى إلى نشر الاضطراب والقلق وعدم الاستقرار في المجتمع المصري.
تعرّض الأسدي في كتابه التيسير والاعتبار إلى الوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي الفاسد في عصره (القرن التاسع الهجري)، وبيّن أسباب هذا الفساد، وحاول أن يقدّم العلاج لكل سبب. وقد تحدث عن الوضع الاقتصادي السيئ، وسوء الإدارة الحكومية، ورأى أن سببه إهمال الموظفين الناتج من إهمال الرؤساء في مراقبتهم ومحاسبتهم على أعمالهم، وما كان عليه الشعب من ضائقة مالية بسبب الغلاء الفاحش، وبسبب كثرة الضرائب والمكوس على التجارة، وبسبب العبء الواقع على الفلاحين بصفة خاصة، حتى هجروا أراضيهم، والواقع على أصحاب الحرف بصفة عامة. كما تحدث عن العملة والتلاعب بالموازين والمكاييل، وأسباب فسادها وطرق إصلاحها. ورأى أن التلاعب بالعملة هو أسّ الفساد والعامل الأول للخراب. وتحدث عن سوء استغلال الإقطاع وعن موظفي الحكومة وتهاونهم في أعمالهم. وتحدث عن الرشاوي وبيع الوظائف والمناصب، والتجارة والتجار واستغلالهم، وتخزين الغلال وإخفائها من الأسواق طمعا في الربح. وتحدث عن الاحتكار والضرائب والمكوس المتزايدة، ما أضر بتجارة مصر الداخلية والخارجية، وهكذا فقد كانت كل تلك السلبيات هي سبب البلايا والمحن التي تعرّضت لها مصر. وقد استطاع، بثقافته الدينية الواسعة وخبرته، أن ينقل لنا أسباب الأزمة التي كانت تعيشها مصر، واستطاع أن يصف الدواء لكل تلك الأمراض. ويؤكد الأسدي أن الاحتكار وفساد العملة يسهمان في صنع الأزمات التي تتعرّض لها المجتمعات؛ وأن إصلاح النقود والمعاملات ضرورة للخروج من الأزمة الاقتصادية.
ويمكن تفسير إقدام الأسدي وإكثاره من الدعوة إلى الإصلاح إلى القلق والاضطراب، وعدم الاستقرار الذي كان المجتمع يرسف في قيوده، حيث كان سوء الحالة الاقتصادية، وسوء الحكم، وفوضى الإدارة، وانعدام التكافل الاجتماعي، يقرع ناقوس الخطر في عصره، ما جعله يهرول إلي تقديم النصح والإرشاد للمسؤولين، عسى أن يسهم في الخروج بمجتمعه إلى بر الأمان. وقد استند إلى خبرته، حيث إنه عاش في صميم الأحداث، وكان مطلعا على دقائق الأمور ودخائلها، فقد كان خبيرا بنفسية السلطان، وبنفسية الموظفين كبارا وصغارا، وأحوال الناس على مختلف طبقاتهم، بالإضافة إلى خبرته في المسائل السياسية والاقتصادية والمالية والاجتماعية التي تعرّض لها، وقدم لها الحلول السليمة، فهو خبير بالنقود وسكّها، وبالموازين والمكاييل ومعاييرها. وهذه الخبرات هي محصلة للوظائف التي شغلها واحتك من خلالها بالموظفين والشعب.
وقد حاول الأسدي أن يستفيد من واقع التاريخ الإسلامي في تقديم سبل عملية تشرح فوائد الحكم
الصحيح السليم القائم على العدل والخبرة في سياسة الحكم، حتى يحث المسؤولين على الاهتمام بالإصلاح والرفق بالرعية، ورفع ما يثقل كاهل الناس من الأعباء المالية، وتوفير سبل الحياة الكريمة لهم، وهذا من فضل الله أن يمن على الأمة بمن يأخذ بيدها ويذكّرها دائماً بكتاب ربها وسنة نبيها الكريم.
كان الأسدي مهتما، مثل ابن خلدون بالعمران، ومن ثم فهو يكره ويرفض التخريب، ويرى العمران دليلا على قوة الدولة وتمكّنها، وهو يتحدّث عن الفتوحات الإسلامية، واهتمام خلفاء بني أمية والعباسيين والفاطميين بالإنشاء والتعمير، ويرى البذخ الذي كان عليه الخلفاء دليلا واضحا على قوة الدولة في عصرهم لنماء العمران وازدهاره. ويرى الأسدي أن الفساد في مصر يعود إلى أربعة أسباب: إهمال الزراعة وإفساد العربان والظلم الواقع على الفلاحين، وبيع الوظائف الحكومية. وهو هنا يقترب من ابن خلدون والمقريزي، حيث كان الظلم قاسما مشتركا لديهم جميعا، ورأوا أنه السبب الرئيسي في الفساد الذي غرقت فيه الأمة، فتدخل الدولة في أرزاق الناس ونهبها، وانتقاصها، وظلم الفلاحين، وإثقال كاهلهم بالضرائب والمكوس التي تستحوذ علي جل مكسبهم، جعلهم ينصرفون عن الزراعة، ويهجرون أراضيها، في وقتٍ حاصر التضخم وارتفاع أسعار جميع السلع في كل مكان، حتى لاح شبح المجاعة في كل مكان، واشتدّت الأزمة علي جميع الأفراد.
وكان انصراف الحكام عن النظر في شؤون الرعية ومحاسبة معاونيهم عن التقصير في أداء وظائفهم عنصرا مهما في انتشار الفساد واتساع نطاقه. وقد رأى ابن خلدون والأسدي أن العدل في الحكم والرفق بالرعية وتعمير البلاد ضمانة لعلاج الفساد والخروج من الأزمة التي تخنق المجتمع. كما أورد ملاحظات مهمة حول القابليات المجتمعية والحالة الثقافية للمجتمعات، وهي أمور من المهم متابعتها والوقوف عليها.
ويلاحظ أن الأزمات التي يتعرّض لها عموم الناس والرعايا، تعود، في جزء كبير منها، إلى
تعرّض الأسدي في كتابه التيسير والاعتبار إلى الوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي الفاسد في عصره (القرن التاسع الهجري)، وبيّن أسباب هذا الفساد، وحاول أن يقدّم العلاج لكل سبب. وقد تحدث عن الوضع الاقتصادي السيئ، وسوء الإدارة الحكومية، ورأى أن سببه إهمال الموظفين الناتج من إهمال الرؤساء في مراقبتهم ومحاسبتهم على أعمالهم، وما كان عليه الشعب من ضائقة مالية بسبب الغلاء الفاحش، وبسبب كثرة الضرائب والمكوس على التجارة، وبسبب العبء الواقع على الفلاحين بصفة خاصة، حتى هجروا أراضيهم، والواقع على أصحاب الحرف بصفة عامة. كما تحدث عن العملة والتلاعب بالموازين والمكاييل، وأسباب فسادها وطرق إصلاحها. ورأى أن التلاعب بالعملة هو أسّ الفساد والعامل الأول للخراب. وتحدث عن سوء استغلال الإقطاع وعن موظفي الحكومة وتهاونهم في أعمالهم. وتحدث عن الرشاوي وبيع الوظائف والمناصب، والتجارة والتجار واستغلالهم، وتخزين الغلال وإخفائها من الأسواق طمعا في الربح. وتحدث عن الاحتكار والضرائب والمكوس المتزايدة، ما أضر بتجارة مصر الداخلية والخارجية، وهكذا فقد كانت كل تلك السلبيات هي سبب البلايا والمحن التي تعرّضت لها مصر. وقد استطاع، بثقافته الدينية الواسعة وخبرته، أن ينقل لنا أسباب الأزمة التي كانت تعيشها مصر، واستطاع أن يصف الدواء لكل تلك الأمراض. ويؤكد الأسدي أن الاحتكار وفساد العملة يسهمان في صنع الأزمات التي تتعرّض لها المجتمعات؛ وأن إصلاح النقود والمعاملات ضرورة للخروج من الأزمة الاقتصادية.
ويمكن تفسير إقدام الأسدي وإكثاره من الدعوة إلى الإصلاح إلى القلق والاضطراب، وعدم الاستقرار الذي كان المجتمع يرسف في قيوده، حيث كان سوء الحالة الاقتصادية، وسوء الحكم، وفوضى الإدارة، وانعدام التكافل الاجتماعي، يقرع ناقوس الخطر في عصره، ما جعله يهرول إلي تقديم النصح والإرشاد للمسؤولين، عسى أن يسهم في الخروج بمجتمعه إلى بر الأمان. وقد استند إلى خبرته، حيث إنه عاش في صميم الأحداث، وكان مطلعا على دقائق الأمور ودخائلها، فقد كان خبيرا بنفسية السلطان، وبنفسية الموظفين كبارا وصغارا، وأحوال الناس على مختلف طبقاتهم، بالإضافة إلى خبرته في المسائل السياسية والاقتصادية والمالية والاجتماعية التي تعرّض لها، وقدم لها الحلول السليمة، فهو خبير بالنقود وسكّها، وبالموازين والمكاييل ومعاييرها. وهذه الخبرات هي محصلة للوظائف التي شغلها واحتك من خلالها بالموظفين والشعب.
وقد حاول الأسدي أن يستفيد من واقع التاريخ الإسلامي في تقديم سبل عملية تشرح فوائد الحكم
كان الأسدي مهتما، مثل ابن خلدون بالعمران، ومن ثم فهو يكره ويرفض التخريب، ويرى العمران دليلا على قوة الدولة وتمكّنها، وهو يتحدّث عن الفتوحات الإسلامية، واهتمام خلفاء بني أمية والعباسيين والفاطميين بالإنشاء والتعمير، ويرى البذخ الذي كان عليه الخلفاء دليلا واضحا على قوة الدولة في عصرهم لنماء العمران وازدهاره. ويرى الأسدي أن الفساد في مصر يعود إلى أربعة أسباب: إهمال الزراعة وإفساد العربان والظلم الواقع على الفلاحين، وبيع الوظائف الحكومية. وهو هنا يقترب من ابن خلدون والمقريزي، حيث كان الظلم قاسما مشتركا لديهم جميعا، ورأوا أنه السبب الرئيسي في الفساد الذي غرقت فيه الأمة، فتدخل الدولة في أرزاق الناس ونهبها، وانتقاصها، وظلم الفلاحين، وإثقال كاهلهم بالضرائب والمكوس التي تستحوذ علي جل مكسبهم، جعلهم ينصرفون عن الزراعة، ويهجرون أراضيها، في وقتٍ حاصر التضخم وارتفاع أسعار جميع السلع في كل مكان، حتى لاح شبح المجاعة في كل مكان، واشتدّت الأزمة علي جميع الأفراد.
وكان انصراف الحكام عن النظر في شؤون الرعية ومحاسبة معاونيهم عن التقصير في أداء وظائفهم عنصرا مهما في انتشار الفساد واتساع نطاقه. وقد رأى ابن خلدون والأسدي أن العدل في الحكم والرفق بالرعية وتعمير البلاد ضمانة لعلاج الفساد والخروج من الأزمة التي تخنق المجتمع. كما أورد ملاحظات مهمة حول القابليات المجتمعية والحالة الثقافية للمجتمعات، وهي أمور من المهم متابعتها والوقوف عليها.