الفساد الجمركي... الشركات الوهمية بوابة التهريب في لبنان

09 مايو 2017
إجراءات وثغرات قانونية تسهل التلاعب الجمركي (العربي الجديد)
+ الخط -
أثار ثبات قيمة عائدات مرفأ بيروت الجمركية، انتباه النائب عن كتلة المستقبل البرلمانية سيرج طورساركيسيان، إذ بلغت العائدات 239 مليون دولار أميركي، في كل من عامي 2015 و2016، على الرغم من ارتفاع كمية البضائع السنوية التي دخلت عبر المرفأ بنسبة 6.3 في المئة في عام 2016، وفقا لما جاء في بيان إدارة مرفأ بيروت الصادر في ديسمبر/كانون الأول من عام 2016.

خلال الجلسة العامة المنعقدة في مجلس النواب اللبناني، منتصف مارس/آذار الماضي، أجابت مداخلة طورساركيسيان البرلمانية عن سبب ثبات العائدات الجمركية بينما زادت كمية البضائع، إذ عرض النائب الأرمني تقريرا أعدته جمعية "سَكِّر الدكّانة" في يوليو/تموز الماضي، (مؤسسة أهلية لمحاربة الفساد)، خلال الجلسات التي ناقشت فرض ضرائب جديدة تطاول مُختلف الطبقات الاجتماعية في لبنان، مشيرا إلى أن حجم التهرب الضريبي يبلغ 1.95 مليار دولار سنوياً من البضائع غير المصرح بها، بالإضافة إلى 195 مليون دولار تدفع على شكل رشاوى كبرى لتسهيل مرور البضائع من دون التصريح بها، وكذلك 195 مليون دولار ضريبة القيمة المضافة غير المدفوعة على السلع المهربة.

كيف يتم التهرب الضريبي؟

يعود التهرب الضريبي بأرباح إضافية على شركات الاستيراد (الحقيقية) العاملة في السوق اللبناني من خلال مجموعة إجراءات وثغرات قانونية تسهل التلاعب الجمركي والضريبي، غير أن هناك من يؤسسون شركات وهمية بهدف التهرب الضريبي أو بهدف إدخال بضائع تجارية لأشخاص ليسوا ذوي صفة تجارية، وفق ما أفادت به "العربي الجديد" الأكاديمية اللبنانية المُتخصصة في مجال القانون وتأسيس الشركات، ألين نعمة، موضحة أنه يمكن لأي مواطن تأسيس شركة محدودة المسؤولية مع شريكين بقيمة لا تتجاوز 3500 دولار، وتسمح هذه الشركة لمؤسسيها باستيراد البضائع من الخارج وإدخالها إلى السوق اللبناني، سواء كانوا تُجاراً مُسجلين في الدوائر الرسمية أم لم يكونوا، فيما يساهم الواقع الرقابي في المرفأ بإدخال تشكيلة بضائع مُختلفة ضمن حاوية واحدة دون السؤال عن التخصص التجاري للشركة المُستوردة"، كما تقول.


ويُفضل مؤسسو الشركات الوهمية عادة "الشركة ذات المسؤولية المحدودة" بسبب "فرض ضرائب سنوية مقطوعة عليها تبلغ حوالي 660 دولارا، إلى جانب سهولة التأسيس والتسجيل".


أما الشركات العاملة في السوق اللبنانية والتي تستطيع ممارسة "التهرب الجمركي" فتعمل وفق نظام "الأوفشور" إذ تكون الشركة قد حصلت على رخصة تأسيس في أحد بلدان الملاذات الضريبية الآمنة، في حين أنها تنفذ أعمالاً في بلد آخر يخضع لسيادة دولة أخرى من الناحية القانونية، وكذلك الشركات القابضة (هولدينغ) وهي شركة أموال يساهم فيها 3 أشخاص أو أكثر يكونون معا رأس المال المشترك، بحسب ما شرحته المحامية نعمة، لافتة إلى المنع القانوني لشركات "الأوفشور" من إجراء معاملات تجارية داخل الأراضي اللبنانية، "لكن التحايل يسمح بإدخال هذه البضائع تحت عنوان "التوضيب" أو "إعادة الترتيب" قبل أن تجد طريقها إلى السوق اللبناني إما مباشرة، أو كما كان يحدث قبل الأزمة السورية عبر تهريبها إلى الخارج وإعادة استقدامها شرعياً بعد الحصول على حسومات ضرائبية عليها". وهو ما وثقه معد التحقيق عبر إفادة من مخلص جمركي على علم بأساليب التهريب (رفض الكشف عن هويته حتى لا يتعرض إلى ضغوط في عمله)، كاشفا عن أنه يتم تسجيل البضائع على أنها تالفة أو إعادة تغليف جزء منها وتهريب الجزء المتبقي إلى السوق اللبناني دون دفع الجمارك المستحقة والتي تتفاوت بحسب نوع السلعة.

وتعمد الشركات القابضة إلى خفض قيمة الضرائب التصاعدية التي تدفعها عبر "توزيع كمية البضائع المستودرة على عدة شركات شقيقة، وهو ما يقلل من قيمة الضرائب التي تدفع". كما تستفيد الشركات الشقيقة من حسومات على الضرائب في حال كانت مدينة بقروض للشركة الأم (القابضة)، وهو ما يساهم أيضاً في تخفيض قيمة الضرائب المتوجبة عليها.


تشجيع الفساد

يخلص التقرير الذي عرضه النائب طورسركيسيان أمام البرلمان إلى تأكيد أن "القانون في لبنان لا يساعد على ردع الفساد بل يشجعه"، وهو ما يؤكد عليه المخلص الجمركي الذي يعمل منذ سنوات في المرفأ، قائلا لـ"العربي الجديد"، مسار الحاويات الواصلة إلى المرفأ ينقسم إلى "الأخضر" الذي تمر البضائع عبره دون فحص مباشر من موظفي المرفأ ويعتمد ذلك على تاريخ الشركة المستوردة ونظافة سجلها من أي محاولات تهريب، و"الأحمر" الذي تخضع الحاويات فيه لكشف يدوي من المُفتشين.

"وفي حين يُفترض بالمسار الأحمر أن يكشف أي بضائع مُهربة، تحول هذا المسار إلى بوابة يلجأ إليها تجار لتخليص بضاعتهم من خطر التفتيش المباشر"، بحسب المُخلص الجمركي، والذي ضرب مثالا بتوقيف 8 موظفين في الجمارك بسبب تهم فساد خلال العام الماضي، تمت إحالتهم إلى المدعي العام المالي للتوسع في التحقيق، كما عمد وزير المال علي حسن خليل إلى تحويل كافة الحاويات خلال عام 2016 إلى المسار الأحمر لإخضاع كافة البضائع الواصلة إلى المرفأ للكشف الدقيق بحسب مكافحة التهريب.

ويسمح هذا التحايل باستقدام البضائع من الخارج وبيعها بأسعار تنافس التجار الشرعيين ما يؤدي إلى ضرب الصناعة المحلية والإضرار بالتاجر الذي يدفع جماركه وضرائبه في آن واحد، بحسب إفادة المخلص الجمركي، والذي لفت إلى تقاسم بعض المُحصلين والتجار مسؤولية الاستيراد عبر شركة وهمية، ورغم منع القانون للمخلصين من ممارسة أي نشاط تجاري أو الارتباط بأي شركة تجارية محلية أو دولية يؤكد المصدر، لجوء البعض إلى تأسيس شركات محدودة المسؤولية بالاستعانة بأقارب ومعارف لإتمام الاستيراد، ويتولى بعض التجار أيضاً تأسيس هذه الشركات، واستيراد البضائع، وهو ما سبق أن حذرت منه، نقابة المخلصين الجمركيين التي دعت في بيانات صحافية إلى ملاحقة المخلصين الذين يلجؤون إلى الحيل القانونية للتهريب، وهو ما "انعكس سلبا على سمعة المهنة إلى جانب انعكاساته السلبية على الاقتصاد اللبناني"، بحسب بيان صادر عن النقابة.


محاضر المصالحة

خلال عمله على إعداد مجموعة تحقيقات مصورة عن الفساد في دائرة الجمارك، حصل الصحافي اللبناني رياض قبيسي على عدد من محاضر المصالحة التي تُثبت التهريب خلال تخليص البضائع الجمركية في مرفأ بيروت، إذ تتراوح كلفة مرور الحاوية الواحدة عبر الجمارك من دون أيّ عراقيل بين 75.000 ليرة (50 دولارا) للخطّ الأخضر و 150.000 ليرة (100 دولار) للخطّ الأحمر، سواء كان التصريح قانونيًا أم لا، وفق ما كشفته دراسة جمعية "سَكِّر الدكّانة".



وتظهر أوراق محضر مصالحة حصلت "العربي الجديد" على نسخة منه، قيام أحد الكشافين بالتدقيق في حمولة حاوية "أدوات منزلية خفيفة وزينة" تم تحويلها إلى "المسار الأحمر" للكشف على محتوياتها. تتوزع المحتويات بحسب التصنيفات الجمركية للبضائع إلى 22 نوعا يحمل كل منها رقم ترميز يشير إلى قيمة الضريبة عليه وكمية البضاعة في الحمولة. وبعكس المتوقع من مرور الشحنة على "المسار الأحمر"، خضع 13 من أرخص البضائع فيها للكشف فقط. واللافت في تقرير الكشف إهمال وجود 6 أطنان ونصف من "البلاط" وهو تصنيف جمركي يشمل مجموعة مشتقات كالمرمر والرخام وغيرها، و700 كليوغرام من "أجهزة تشغيل الأسطوانات المدمجة" (DVR)، لم يلحظها محضر المصالحة الذي اقتصر على تغريم المستورد بمبلغ زهيد (أقل من 200 دولار)، بسبب "إخفاء قيمة بضاعة ومحاولة الامتناع عن توريد رسوم مالية إلى الخزينة العامة"، إضافة إلى حسم 20% من الضريبة المفروضة على حمولة البلاط لتقتصر على 5 في المئة فقط بدل أن تكون 25 في المئة من قيمتها كما ينص القانون. ويؤكد قبيسي أن هذه العملية "حرمت الخزينة من ضرائب بحوالي 20 ألف دولار أميركي"، ما يعد نموذجاً لطرق احتيالية يتم اللجوء إليها للتهرب من دفع الجمارك والضرائب المستحقة للسلع القادمة إلى مرفأ بيروت.