الغناء الصوفي.. ترانيم ثورة الهوية

20 نوفمبر 2014
لا تكاد قرية تخلو من مولد يُحيا سنويّاً (أ.ف.ب)
+ الخط -

ليس الإنشاد الديني ظاهرة مستحدثة، فالشعر الديني، في تعظيم الله، أو مديح النبي والتغني بنصراته، هو مصاحب لبداية الإسلام، وتطوّر بتطوّر مراحل دولته ومجتمعه. كذلك الأمر مع الإنشاد الصوفي، الذي يمكن تصنيفه كلون من ألوان الإنشاد الديني، يتناول بشكلٍ أساسي مديح النبي وآل بيته، وكذا ما يعرف بالعشق الإلهي.

والشعر الصوفي، والتغني به، بلحنٍ أو إلقاء هو مصاحب لنشأة حركة الزهد والتجرد الإسلامية، كما تأثّر بفنون الحضارات الجارة، كالفارسية، الهندية والأوروبية. وأضحى منذ بداياته الأولى، جزءاً أساساً في الطقوس الصوفية، من حضرات ومجالس ذكر وسماع، وتكلم فيه كبار أئمة الصوفية، وفي شروط إلقائه وسماعه، بدايةً من الجنيد فالشبلي، مروراً بالقشيري في رسالته، التي تعتبر دستوراً للصوفية، نهايةً بالتصوف الطرقي، وأئمته الكبار.

ولا تكاد قرية، أو نجع، فضلًا عن مدينة وبندر، في مصر، تخلو من مولد يُحيا سنويّاً لوليّ صالح له مقام في المكان.. فالموالد محافل الإنشاد الأولى. يأتي للمولد في القرية الفلانية، منشدو كل القرى والكفور والنجوع المجاورة، وقد تُميّز قرية مولدها عن غيرها من المجاورة، بأن تستحضر مدّاحاً من الكبار ليحيي الليلة؛ لذا إن كنا سمعنا عن أحمد التوني، ياسين التهامي، محمد الكحلاوي، محمد الهلباوي، وبالطبع الشيخ سيد النقشبندي، إلا أن كثيراً منا لم يسمع عن أمين الدشناوي، وإن كان أكثر المغمورين شهرة، أو الشيخ عيون الديروطي، أو أيمن الهريدي، وغيرهم من فطاحلة المديح والإنشاد الصوفي، يعرفهم دراويش الموالد، وخصوصاً في الصعيد المصري، الذي لا يزال حاضراً بقوّة كحامٍ لحمى تراث المديح والإنشاد الصوفي.

ومما قد يتعجب البعض منه، أنّ هذا اللون الفنّي الأصيل، لم يكن حكراً على الرجال، بل زاحمت أساطينه نساءٌ سجّلن لاسمائهن وزناً في ساحة الإنشاد الصوفي، كجمالات شيحة، وخضرة محمد خضرة.

وكأي أمر، فإن دوام الحال من المحال، كذلك كان الإنشاد الصوفي، ليمرّ في العصر الحديث بتغيّرات كبيرة، ما بين سطوع نجمه، للخفوت، نهايةً بإعادة إحيائه مرّة أخرى، حيث هي الوجوه القديمة ذاتها؛ كبار المدّاحين، لكنّ الجمهور ليس كالجمهور.

لقد جذب الإنشاد قلوب شريحة واسعة من الشباب، خصوصاً في الأعوام الأخيرة، ليتكوّن تيّار واضح من الذين يفضلون سماع فرقة ابن عربي، عن أيّ من نجوم الغناء الحديث المشاهير، بل تجذّر الأمر عند البعض ليصبحوا من مريدي شيوخ المديح، كالتوني، والتهامي، والهلباوي، ومحمد عمران، الذي يمكن القول، إن إعادة إحياء تراثه القرائي والإنشادي، كان لمواقع التواصل الاجتماعي دورٌ كبير فيه، وتشارك الشباب لأعماله، حتى بدت تلك النزعة في التبلور كظاهرة، وسط تلوّن الساحة الفنية الغنائية، بألوانٍ غارقة في الحداثة، وبعضها في الابتذال، ما جعل من كلمات ابن عربي، أو الحلاج والرومي، وابن الفارض، أو رابعة العدوية، ملاذًا ملائماً للشباب في رحلة بحثه عن "القيمة".

إنّ الفكرة التي تخرجت فيها الثورة المصرية، بعيد 25 يناير، وفي إرهاصاتها؛ بناء فضاء عام أصيل حرّ، وفي أرجاء هذا الفضاء لابدّ أن تتحدد الهوية، وإن كان الاستقطاب غير ذي جدوى في رحلة البحث عن "القيمة"، فإنّ بناء هويّة خاصة تمتزج فيها الأصالة بالحداثة، هو حلّ مرضٍ لطرف المجتمع، ولطرف الباحث. هذا النوع من الهويّات سريع الانتشار، فإذا كان استحضار الشيخ إمام كأهزوجة ثورية في ميدان الـ18 يوماً، فإن استحضار "أدين بدين الحبّ" هو ترنيمة ثورية في المجتمع، أصيلة المصدر، وعصرية السياق، وذات طابعٍ تفكيكي لأنماط العلاقات، والتوجهات التقليدية.

لكن سرعة التطوّر الحديث انتقل بالإنشاد الصوفي، من التوني، والتهامي، أو حتى فرقة ابن عربي، إلى محمد عبد الرحمن، وهاني دهشان، وزجزاج، وغيرهم الذين مزجوا بين كلمات التراث الصوفي الشهيرة، وأنواعٍ من الموسيقى الغربية، بل مزج بعضهم، كفرقة سماع للإنشاد الصوفي، بين الترانيم الكنسية، وبين الموشحات والمواويل الصوفية. وفيما يراه البعض انحداراً بالذوق في الإنشاد الصوفي، والإدخال غير المعتبر عليه، يراه آخرون ذكاءً من المنتجين والفنانين، أن زاوجوا بين الحداثة والتراث، وسواء اختلفت أم اتفقت، يبقى أنه نتاج طبيعي للسياق التاريخي وتجلياته في المجتمع العربي عامةً والمصري خصوصاً.

المساهمون