الغابة لا تزال في مكانها

14 ديسمبر 2015
من أعمال دييغوا ريفيرا(Getty)
+ الخط -
له ذاكرةٌ حَيّة

كان يَمْضي عبر شارع العظام
تحت مطرٍ من ابْتسامات الأشباح
يُخفي جيّدًا صرختَه السّرّية
لا يحبّ الحياة كثيرًا
لكنّه لا يكرهها
لقد وُلِد ذات يوم
اشتدّ فيه الحرُّ على المجانين
وهو يعيش الآن مثل الكثيرين
قرب بركة عجوز
يُنْصِتُ إليها في الليل وهي تحكي القصص
لجراداتٍ
من حَوْلِها
له ذاكرة حيّة: رأى مرّة سيجارةً في
فم عابر بقربه
فتذكّر أنّها السّيجارة نفسُها التي
سبق أن رآها في حلم
يتذكّر أيضاً أنّ جدّته، قبل وفاتها
أوصتهُ خيراً بعلبة النّشوق
التي تعاني من الخَرف
وبالرّياح الفقيرة
والدّجاجات الثّلاث
النّاسكات



يتمشّى على رمل قديم


دونَ رغبةٍ منه
تحوّل، خلال الليل، إلى طائر من نار
وجابَ العديد من الحدائق والحقول
وكان أن سبّب حريقاً في حقل
تناول به كرزاً!
وَخَزه ضميره بِشِدّة في أثناء الليل
لكنّه في الصّباح، جاء إلى مكتبه
في هيئته المعهودة، باستثناء
أصابعه التي كانتْ عُقَلُها
قد أصْبَحت جَمَرات!
إنّه يتمشّى، الآن، على رملٍ قديم في ذاكرته
مفكِّراً بالظُّلم الذي حاق به
بعد أن انكشفَ أمره
وحكموا عليه بأن يُسْجَن
في قفصه الصّدري
سِنينَ عددًا


بسبب أوراق ميّتة

كان ثمّة خفْقُ أجنحة
يتناهى إليّ من حديقة تتمدّد فيها فتاة
على مصطبة
الفتاة كانت رفيقةً لي في قسم ما
بالابتدائيّ
وفي تلك الأيّام البعيدة
كانت قد أُصِيبت بالنّحول بسبب
أوراق ميّتة سقطت ذات خريف
على ركبتيها
ثُمّ التقيتُها بعد ذلك بزمن
في محطّة قِطار
وقد كانتْ تدخّن كثيرًا
وقالت إنّها في طور التّحوّل
إلى سيجارة ضخمة
سيجارة ذات فم وعينين
ذات أذنين ونهدين
وهي الآن على المصطبة
تبدو مديدة ملفوفة بالبياض كأنّها فعلًا
سيجارة ضخمة
ومن ذاكرتها يتصاعد
دخان أبيض ورمادي
مع هذا، لا داعي لأن نقلق
فهي لا تزال من لحم ودم
على شفتيها ابتسامة
وتشمّ رائحة ورود
وتنظر إلى عصفور فوق سلك كهربائيّ
بعيد



كنتُ وقتها جالسًا على صخرة


تحت ضوء القمر
يَمضي البحر ليدلف إلى كهف
جاءته منه نداءات غرقى
تمَّ نِسْيانهم هنالك
لكنّ البحرَ لم يعدْ من الكهف
لا بالغرقى ولا من دونهم
كنتُ وقتها جالسًا على صخرة
أصبّ لي كؤوس نبيذ
وها قد امتدَّتْ أمامَ عينيّ
مفازةٌ لا تنتهي
حلَّتْ محلّ بحرنا الجميل
وفي المساء الموالي
تعالى حزننا، نحنُ سكّانَ السّاحل
من صدورنا، غِرْباناً بالمئات
أَنصتوا الآن إليها
إنّها تنعق بسيمفونية مُدْلَهِمّة
في ذِكْرى فقيدنا المَهيب
وهي لن تتوقّف إلّا بعد أنْ
تتشقّق
حناجرها


في البداية، حسبتُ أنّي متّ


في البداية، حسبتُ أنّي متّ
لكنّ روحي
التي كانتْ، حقّاً، قد غادرتْ جسدي
لَمْ تلتحقْ بالسّماء
بل إنّها صعدتْ إلى قِمّة نخلة
وهنالك تحصّنتْ
كنتُ وقتَها جنب البحر
والليل قد حَلّ منذ ساعات
وكنتُ في كامل شُعوري، وأدركت أنّها
باعتصامها هنالك بين السّعف
كانت تطالب جسمي بالكفّ عن السّهر الطّويل
ذلك أنّها كانتْ تتضامن
مع رئتيّ اللتين، إذ يحلّ الظّلام
كانتا تسعلان باستمرار، إلى أنْ أنام
وأكفّ عن إشعال السّجائر
وفي الصّباح، تأمرانني بأن
أنهض وأخرج إلى الهواء الطّلق
وتُضيفان:
هيّا، أسرِعْ
ما الذي تنتظر؟


قال لِزوجته


قال لزوجته في الصّالة
هذا البرنامج التلفزيوني عن معنى الصّيرورة
يستثير غضبي
قالت الزّوجة إنّ أولئك المتفلسفين الثّرثارين
يعقّدون على النّاس الحياة
ويُذكّرونها بعمّها المجنون
الذي كان يُحاوِل أنْ يَشدّ الغيوم إلى بعضها
بالبراغي
وقالت إنّها حين كانت تلميذة
سألتها أستاذة عمّا هو العدم
فبدا لها هذا الأخير في منتصف الليل
محلّقاً فوق دولاب الملابس
في هيئة تجعيدة!
أفلا تكون، إذن، هذه كلُّها رموزاً للصّيرورة، تساءل الزّوج:
هذا الجورب المثقوب مثلًا
المتروك فوق وسادة؟
أو تلك النّوبة العصبيّة التي أصابتْ
بالأمس ذبابةً في المطبخ؟
أو تلك الصّورة الشّعريّة التي استحمّتْ بالنّبيذ
في قصيدتي الأخيرة؟


الماضي والحاضِر


المُحاربُ ذو الحِراب، معتليًا البرج في ذلك الزّمان
البعيد، كان يقول:
تلك الإجّاصات في تلك الشجرة
هي مصابيح لهذه الغابة
التي على مشارف مدينتنا.
في مساء البارحة، جاءتْ عصفورة وأشعلتْها
ليهتدي صغارها
أثناء التّحليق بين الأشجار
ثمّ مضتْ إلى أعلى البرج القديم
الذي كان يعتليه المحارب قبل
ألف عام.
أمّا المدينة التي كانتْ قريبة من الغابة
والتي كان المحاربُ يقطن بها
فقدْ ساخت، منذ زمن طويل
في طَمي أحلامها،
لكنّ الغابة ما تزال في مكانها
والمُحارب، حسبما رواه ابن الأثير
مات قبل قرون
بعد أن بدأ يقذف من جوفه كلّ صباح
بيضاً كثيراً
مسلوقاً
وَساخِناً!




المساهمون