العيد والمتنبي في سيتي ستارز!

09 يونيو 2019
+ الخط -
بُعيد صلاة العيد، انفردت بنفسي -وكثيرًا ما أفعل- أدير الفكر في أمور شتى، وإذا بقدميّ ترغماني دون إرادتي على دخول سيتي ستارز، ولم أصدق نفسي وأنا أقف أمام أبي الطيب المتنبي! غاص قلبي واكفهر وجهي وانعقد لساني، لا أعرف ما أقول.

الدنيا من حولي في شكلها الطبيعي؛ فالجينز والفيزون والبرمودا والجيبكلوت تسيطر على الأجواء، لا مفازة حولي ولا فيافي، صحيح الخيل من حولي أشكال وأنواع، وشحاتين الغرام يبحثون عن الغيد الأماليد، وأنا في كامل قواي العقلية ولم أبلبع أي مهلوسات؛ لأننا في عيد والسوق شاحح، لكنما هذا الرجل لا تخطئه العين، وكم مرة في العمر يظهر أبو طيب؟ وإن ظهر فإن الدهر بمثل أبي الطيب المتنبي لضنين.

وقلت لنفسي: علَّه يشبهه! لكن نفسي في حوارها الموجز أقنعتني برأيها، تمامًا كما دأب الإمبراطور نوما على إقناع الناس بحيلته، وكان إذا أراد أن يقنع أحدهم برأيه قال له: هذا ليس رأيي، بل هو رأي إيجاريا! يريد زوجته الإمبراطورة إيجاريا؛ فيصل إلى ما ينتويه بأقصر الطرق. المهم في المسألة أني اقتنعت بأن الماثل أمامي عمنا الحاج أبو الطيب المتنبي، وانعتق لساني من عقاله؛ فعزمت عزمًا أكيدًا على أنني سأفتح معه أي حوار، وإن تطلب ذلك أن أحكي في المحكي!


مساء الخير يا فنان! أول جملة قفزت من لساني –الله يكسفه- وهل يليق أن ينادى المتنبي بهذا اللقب؛ فالرجل له مكانته في رحاب الضاد، لكن هيبة الرجل أفقدتني التوازن الفكري والمنطقي. لم يفهم ما قلت ورفع حاجبيه مستفهمًا، وتداركًا للعك الذي بدر مني استأنف جملتي: حيا الله شيخنا أبا الطيب! ففغر فاه متعجبًا، وقد ظن أن أحدًا لن يلتفت إليه لاسيما وأن الحسناوات لم يتركن لغيرهن مجالًا، وسأل: كيف عرفتني؟ قلت: رأيتك قبل مدة في بلاط كافور؛ فاعتاظ وغمغم بكلمات لم أفهمها، لكنني فسرتها بما يعاقب عليه القانون، وأردت تغيير مجرى الحديث إلى مجال يطرب له.

قلت: عيد مبارك يا شيخنا! قال: أيّ عيد؟ حدثني عن كافور، وعن هذي الهِيف (جمع هيفاء)؛ فبشرته بهلاك كافور حتى أشرقت ظلمات وجهه، وأن الهيف اليوم في كل حدب وصوب، والفضل بعد الله للميك آب وجراحة التجميل، ثم مال الحديث بنا إلى العيد فسألته عن قصيدته الكئيبة، والتي أدخل بها الحزن قلوب الناس قبل بيوتهم، ولمح في كلامي لهجة توبيخ مبطَّن؛ فقال اسمع مني قبل أن تحكم عليَّ.

قلت: هات.. لا فضفض الله فاك! فزفر ومرّ بيمينه يمسح وجهه، وأمسك معصمي الأيسر بيمناه، ومضى كأنما أراد استكشاف معالم المكان، وقال: هذه قصيدة هاجت لي الهم والأحزان والوجعا -مع احترامي للقيط بن يعمر الإيادي- وكنت يومها سادرًا في غلواء نفسي، أجوب الأرض لا أضع عصا الترحال، وتركت ورائي أهلي وأحبتي، وأخذتني سِنة من التفكير في مستقبل عائلتي، وجهاز بناتي ومصاريف تعليم أبنائي، وارتفاع فواتير الكهرباء والمياه، وغلاء الأسعار والديون التي تقافزت على ظهري.

أمسك عن الكلام وتأرجحت دمعتان في مقلتيه، ولم أشأ أن أقاطعه فتشاغلت عنه كي لا أجرح كبرياءه، وبعد هنيهة واصل حديثه: ولما فكرت في كل هذا، قررت أن أوفر رسوم تذكرة السفر، وأن أرسلها للأهل وغالبت أشواقي فغلبتني وقلت "عيد بأية حال عدت يا عيد"، ولو أنني أملك ما يقيم أود أبنائي ما اغتربت عنهم، ولم أظفر بترقية أو علاوة أو غيرها مما ينعش ركود بيتي الاقتصادي فقلت "بما مضى أم بأمرٍ فيك تجديدُ". أيقنت أن لقائي مع المتنبي سيصبح حديث الصحف، وأنني سأشب على أطراف أصابعي لأطاول الكبار، وأتبجح في حضرة الجهشياري والجبرتي وأنيس منصور والواد الشقي وغيرهم من أساتذتي، وأردت أن أطيل الحديث ما وسعني ذلك.

فألقيت له سؤالًا ليواصل حديثه الحصري، وقلت: ما أوجع قولك "أما الأحبة فالبيداء دونهم"، وعلى الفور استغفر وحوقل، وأشار براحته اليمنى وقد رسم بها زاوية 180 درجة، بعد أن رأيت هذي المزز؛ فلا أحبة لي هناك ولا ديار ولا أطلال؛ فالديار هنا ومتعة النواظر والخواطر. أعلم أنه بهرجٌ خداع وبرقٌ خلب، لكننا معشر الرجال نطرب لهذا البهرج ما لم ندفع فيه شيئًا، والعين بتعشق كل جميل!

ثم خلع عمامته وأصلح لمته، وقال: يجب أن ألبس ملابسكم الأعجمية لأروق لإحداهن؛ أليس كذلك؟ وقبل أن أجيب إذا به يقف أمام مرآة أو محل زجاجه عاكس؛ فرأى عربدة الشيب برأسه، وفي هدوء اعتجر عمامته وقال: اصرف نظر! لن تقبل بي واحدة من هذه السنيورات فـ"لم يترك الدهر من قلبي ولا كبدي/ شيئًا تُتَيَّمُهُ عينٌ ولا جِيدُ). اشتعل الرأس شيبًا يا فلان! قالها بحسرة وهو ينظر إليَّ، وهز رأسه وهو يضرب كفًا بكفٍ ويستغرب حال الناس وموقفهم منه (ماذا لقيتُ من الدنيا وأعجبه/ أني بما أنا شاكٍ منه محسود).

وفي جولتنا، مررنا على ستاربكس فأردت أن أكرمه، وجلسنا قليلًا نرتشف شيئًا، وطلبت لنفسي –واسمح لي أتكلم عن نفسي شويه- إنجليش بريكفست –مع إننا كنا بعد الظهر- وطلب أبو الطيب موكا بالشيكولاته البيضاء المثلجة مع تشيز كيك بالفراولة، وبعد أن عمَّر بهما دماغه، انتشى وأنشد وهو يشير إليَّ (جودُ الرجالِ من الأيدي) وشعرت بالفخر العملاق، ثم أشاح بوجهه بعيدًا وأكمل (وجودُهُمُ من اللسانِ فلا كانوا ولا الجود)، ووددت له صحبته لحظتها إلى أحد المطاعم الفاخرة مثل الرفاعي أو عصمانلي أو بدوية، أو إلى "أبو السيد" في الزمالك، أو مطعم فرحات بالأزهر، أو غيرها من المطاعم التي تفتح شهيته ليتحفني بقصيدة تبقى ذكراها.

وقمنا لاستئناف رحلتنا، وليتنا ما قمنا يا أخي! تصور بعد ما نحن فيه من دماغ عالية، وارتفاع معدل الإندورفين في دم أبي الطيب، لكنه عبقري -والعباقرة مخاليل- لا يقر له قرار ولا يثبت على حال؛ فإذا به يقول: ما جرى لكافور؟ قلت: قبل قليل سألتني وأجبتك، قد أسكتَ الله نأمته؛ فلا تشغل نفسك به، ولا تفكر فيه وفي سنينه. يبدو لي أن إجابتي لم تشفِ غليله؛ فسألني عن أحوال من بعده، ووجدتني في حيرة من أمري ولم أدرِ كيف أجيبه بدبلوماسية لا تضعني تحت طاولة القانون، وقلت: الحمد لله! كله كويس! فكأنما زدتُ الطين بِلة والمريض عِلة، واندفع أبو الطيب يمطر مسمعي بقوله (أكلما اغتال عبدُ السُّوءِ سيَّدَه/ أو خانه فله في مصر تمهيدُ) وقلت استهدى بالله يا عمنا؛ فلم يصخ السمع وقال (صار الخصي إمامَ الآبقين بها/ فالحرُّ مستعبَّدٌ والعبدُ معبودُ)، وقلت كده كفاية يا غالي الله يسترك؛ فكأنما توهمني أشجعه ليرد الصاع صاعين ويزيد، فقال (نامت نواطيرُ مصرَ عن ثعالِبِها/ فقد بَشِمْنَ وما تفنى العناقيد)!

وهنا لم أتمالك أعصابي، وقلت محذرًا: أتعلم يا أبا الطيب أنك بذلك تتجاوز الخطوط الحمراء؟! وأن حقوق الإنسان لن ترحمك، وستطاردك في كل مكان وتقتص للعبيد منك! ثم مفيش عبيد عندنا يا عم الله لا يسيئك، اسكت بقى، هاتها جمال من عندك يا رب.

مع ذلك كله، لم ينصرف شيطان شعره، واحترم مشاعري وخوفي على مستقبلي فلم يُسمعني شيئًا، اللهم إلا بعض كلمات تسربت إلى أذني دونما قصد منها (العبد ليس لحرٍ صالحٍ بأخٍ)، (لا تشتري العبد إلا والعصا معه)، ثم (من علَّم الأسود المخصيَّ مكرُمةً)؛ فأدركت أن أبا الطيب عياره فلت، وأوجعني قوله (وما كنتُ أحسبني أحيا إلى زمنٍ)، ومن بعدها قوله (ولا توهمتُ أن النَّاس قد فُقِدوا).

وفي خضم حالته النفسية تلك، استأذنني في الانصراف، وضرب لي موعدًا لا نخلفه؛ ليُطلعني على بعض ما يجيش في صدره، ومع أنه قفل اليوم بدري ورمى عليه سرابيلًا من السواد، لكنه العملاق العلم الذي قال فيه ابن رشيق في العمدة "ثم جاء المتنبي؛ فملأ الدنيا وشغل الناس".