العودة المدرسية في تونس: هل مازال التعليم حقاً مكفولاً؟

30 سبتمبر 2017
كلفة التلميذ غير ثابتة في كافة المستويات الابتدائية(فرانس برس)
+ الخط -
في البدء كانت الكلمة سبيلا نحو الارتقاء الاجتماعي وتحقيق الذات من خلال وظيفة محترمة ومرتبة اجتماعية مرموقة غير أن السياق العام تغير الآن وباتت معركة التدافع الاجتماعي تستوجب المادة كسلاح أساسي، فما عادت الدراسة بذلك وسيلة لضمان الوظيفة والحق في العمل إذ تحولت المدارس والجامعات في العالم العربي بصفة عامة إلى محضنات لتفريخ العاطلين عن العمل أكثر من غيرهم. فهل يمسُّ ذلك من عزيمة التونسيين تجاه التشبث بالمدرسة والتعليم الذي يبدو انه لم يعد حقّا مجانيا؟

هذا المعطى الاجتماعي الاقتصادي رغم قسوته لم يقلل من أهمية الدراسة في نظر التونسيين ولم يتمكن من أحلامهم في رؤية أبنائهم ذوي مؤهلات علمية وشهادات عليا. حيث مازال الأبوان التونسيان يناضلان من اجل التعليم الذي تُجمع جميع المؤشرات أنه تحول الى عبء اقتصادي حقيقي لدى الطبقة الاجتماعية المفقرة التي بلغت سنة 2015، 26 بالمائة في الأوساط الريفية. ولكن هذا النضال مرتبط كذلك بمقدرة الأبناء أنفسهم على تحمل مصاعب مسار دراسي لا يخلو في بنيته من العيوب والنقائص.

كم ينفق التونسيون على العودة المدرسية؟
في بحث ميداني جديد أنجزه المعهد الوطني للإحصاء بتونس تبين أنّ التونسيين ينفقون حوالي 473 مليون دينار (192 مليون دولار) بمناسبة العودة المدرسية.


وأظهر البحث الميداني الذي قام به المعهد الوطني للإحصاء، أنّ كلفة تلميذ بالسنة أولى ابتدائي باحتساب كافة مستلزماته الأدواتية يصل معدّلها إلى حوالي 91 دينارا (37 دولارا) مقابل 79 دينارا في السنة المدرسية السابقة.

كلفة التلميذ غير ثابتة في كافة المستويات الابتدائية فتلميذ في السنة السادسة ابتدائي في حاجة إلى أكثر من 153 دينارا (64 دولارا). الإحصائيات المقارنة بين السنة السابقة 2016 تظهر ارتفاعا في تكلفة العودة المدرسية للتلميذ الواحد بنسبة تتراوح بين 15 و22 بالمائة.

و في ما يتعلق بكلفة العودة المدرسية لتلميذ السنة السابعة (المرحلة الإعدادية)، فتقدر بحوالي 137 دينارا (57 دولارا)، مقابل نحو 125 دينارا خلال السنة الدراسية 2016 / 2017، ليكون معدل ارتفاع الكلفة بالنسبة للمرحلة الإعدادية بين 9 و12 بالمائة.

أما كلفة العودة لتلميذ البكالوريا، فقد تم تقديرها بنحو 147 دينارا (61 دولارا) مقابل 131 دينارا في الموسم الدراسي 2016 /2017، ليتراوح التطور في المرحلة الثانوية بين 9 و12 بالمائة أيضا.

البحث الميداني، أوضح كذلك، أنّ كلفة العودة المدرسية، للمرحلة الابتدائية (باحتساب الأدوات والكتب المدرسية فقط)، تتراوح بين 42,280 دينارا ، و83,890 دينارا.

وفيما يتعلق بالمرحلة الإعدادية، تتراوح هذه الكلفة بين 137,670 دينارا و142,890 دينارا، وتنحصر بين 137,050 دينارا، و148,255 دينارا بالنسبة للمرحلة الثانوية.

لكنّ هذه الكلفة غير نهائية اذ ترتفع مباشرة باحتساب جميع مكونات العودة المدرسية، من محفظة وميدعة وحذاء رياضي وزي رياضي، ومعاليم التسجيل والاشتراك المدرسي، حيث تزيد الكلفة التقديرية، لتتراوح بين 200,530 دينار (83 دولارا)، و288,055 دينارا(120 دولارا) للتلميذ الواحد.

أكثر من مليوني تلميذ
وكالة تونس إفريقيا للأنباء (وات) كانت قد نقلت عن المدير العام للمعهد الوطني للإحصاء، طارق بن جازية، قوله، إنّ هذه الأرقام والمعطيات، تم احتسابها، استنادا إلى المعطيات المتعلقة بعدد التلاميذ، الذي يتجاوز المليوني تلميذ خلال هذه السنة، إلى جانب بحث ميداني حول الأسعار شمل 25 نقطة بيع بإقليم تونس الكبرى.

المليونا تلميذ ينقسمون إلى نحو مليون و100 ألف تلميذ بالمرحلة الأولى من التعليم الأساسي وما يزيد عن 890 ألف تلميذ بالمرحلة الثانية من التعليم الأساسي بالقطاع العمومي فقط.

عبء الدراسة
قد تبدو للوهلة الأولى مصاريف هينة تلك التي تطلبها عودة التلاميذ كل سنة بل تافهة إذا ما حولناها إلى الدولار، إلا أن الواقع التونسي بمرارته يجعل منها أمّ المشاكل للعوائل المعوزة- وما أكثرها في تونس- الطامحة الطامعة في مستقبل أفضل لأبنائها من بوابة التعليم الذي مثل طوال فترة الجمهورية الأولى تقريبا مصعدا اجتماعيا لا بديل لهم عنه فعلاوة على ارتفاع مؤشرات البطالة التي تتجاوز 15 بالمائة عموما وتبلغ 25 بالمائة لدى الإناث من غالبية حاملة للشهادات العليا إضافة إلى انخفاض مستوى الأجور، حيث يحدد الأجر الأدنى في تونس بـ350 دينارا (145 دولارا) في الشهر. فإن تتالي المناسبات والأعياد الإسلامية خاصة تضع المواطن البسيط لاهثا وراء الدينار الذي يواصل انحداره أمام اليورو، العملة الأهم في واردات البلاد.

بالمقارنة مع ارتفاع أسعار المواد المدرسية بنسبة 20 بالمائة حسب تصريح مدير المعهد الوطني للإحصاء والتي يقاس عليها ارتفاع المواد الاستهلاكية بشكل عام فإن الأجور بقيت مجمدة ما أدى إلى تواصل انصهار الطبقة الاجتماعية الوسطى في الطبقة الدنيا واتساع البون بين متطلبات الحياة ومقدرة المواطن. وهو ما يفسر وصول نسبة التضخم حدود الشهر الماضي إلى 5.7 بالمائة مقارنة بـ 4 بالمائة بداية العام.

وفي الوقت الذي يصل فيه عدد التلاميذ فقط دون احتساب الطلبة إلى 2 مليون فإن نسبة المشتغلين لا تتجاوز الثلاثة ملايين ونصف فيما لا تتجاوز نسبة النشيطين الأربعة ملايين في بلد يضم قرابة 11 مليون ساكن وهو ما يعمق من نسبة الإعالة في المجتمع التي تتجاوز الـ 50 في المائة.

فحينما نعلم أن الدخل الفردي التونسي في حدود 3700 ألف فإنه من العادي اعتبار أن تكلفة 120 دولارا للعودة المدرسية لتلميذ واحد تعد رقما هاما في الموازنة المالية لعوائل لا يتجاوز دخلها الشهري الـ 100 دولار.

تتجلى الدراسة كعبء اقتصادي بالأساس في الأوساط الفقيرة بالنظر إلى عدد المنقطعين عن الدراسة سنويا في المرحلة الابتدائية والتي تتجاوز الـ 100 ألف منقطع حيث تبلغ أشدها بالمحافظة الأشد فقرا بالبلاد وهي القصرين التي تصل نسبة المنقطعين بها في هذه المرحلة الدراسية إلى 36.4 بالمائة. في حين تبلغ اعلى نسبة من المنقطعين في المرحلة الثانوية 66.7 بالمائة بولاية قبلي وهي الأخرى من اشد المحافظات فقرا وتهميشا. فلا يمكن ان لا نذكر كيف أن الفقر يغتصب ألاف الأطفال من المناطق الداخلية ويحول وجهتهم من مقاعد الدراسة إلى قوارع الطرق وسفوح الجبال بحثا عن لقمة العيش.

لا تكمن المعضلة في ارتفاع أسعار المواد المدرسية ومصاريف التعليم التي لا تساوي شيئا في بلدان الشمال بل إن مقارنتها بالوضع الاقتصادي والسياق الزمني للعودة المدرسية يجعل منها حلقة أخرى من سلسلة النار التي يكتوي بها المواطن التونسي في فترة من اشد الفترات حُلوكا في تاريخ الاقتصاد الوطني، ومناسبة أخرى لتأكيد أن مبدأ تكافؤ الفرص لم يعد متاحا في الدراسة للجميع كما أنها ليست في جميع الأحوال قاطرة اجتماعية.
المساهمون