العودة إلى ساحل القراصنة

19 يوليو 2017
+ الخط -
يقدّم أرشيف سجل مكتب الهند للحكومة البريطانية، رقم IOR/R/15/1/189، في رسالةِ واحدٍ من عيون المقيم البريطاني في الخليج، سرداً مطوّلاً يستعرض تبعات هجوم مشيخة أبوظبي على الدوحة منتصف عام 1888. ويرد في الرسالة التي تحذّر المقيم من تبعات الأزمة: "إن جاسم (الشيخ قاسم بن محمد آل ثاني مؤسس دولة قطر) في حركة وحرقة قلب، وأنه سيُعرِف الدولة العثمانية، وسيطلب عسكراً ومركباً".
وتصف الرسالة المطوّلة أحوال قطر والهجوم العنيف الذي قاده خليفة بن الشيخ زايد الأول آل نهيان، شيخ أبوظبي آنذاك، وقد أدى إلى مقتل 34 رجلاً من رعايا الشيخ قاسم آل ثاني، ومنهم نجله الشيخ علي بن الشيخ قاسم آل ثاني، الملقب بالشيخ جوعان.
وفي مرجعه "دليل الخليج"، يذكر المؤرخ جون غوردون لوريمر (موظف بريطاني في حكومة بريطانيا في الهند. يعد أبرز المؤرخين في منطقة الخليج العربي في بداية القرن العشرين. توفي عام 1914)، أن نزاعاً دار بين أبوظبي وقطر بسبب أزمة اللاجئين في منطقة العديد التي استوطنها منشقون من التحالف القبلي (بني ياس) سنوات، كانوا قد غادروا أبوظبي هرباً من غراماتٍ ماليةٍ فرضتها السلطات البريطانية على أبوظبي، بعد توثيق خروق مشيختهم معاهدة السلم البحري 1820، وقيامهم بأعمال قرصنة في الخليج.
بعد ضغوط متزايدة، وصراع طويل، عاد المنشقون من قبيلة القبيسات إلى أبوظبي عام
1878، لكن صراعات المشيختين لم تنته، استمرت المناوشات، بل ازدادت عدائيةً بشأن السيطرة إلى منطقة العديد. أما سبب الهجوم، موضوع الوثيقة أعلاه، بحسب جون لوريمر، فكان رغبة مشيخة أبوظبي في الحصول على كميات من الطحين (الدقيق) من أسواق الدوحة.
استعان الشيخ قاسم بن محمد آل ثاني بالحامية العثمانية المحاذية له، وشنّ على أبوظبي غارة قرب بر القارّة، تلاها هجوم موسع على أبوظبي، وصولاً إلى عام 1891 حين كادت هجمات قطر أن تؤدي إلى سقوط أبوظبي، لولا وساطة بريطانية أعادت حدود المشيخات إلى ما كانت عليه.
لعب الدخول العثماني الداعم لمؤسس دولة قطر، الشيخ قاسم بن محمد آل ثاني (توفي 1913) في الدفاع عن مشيخته تجاه تهديدات أبوظبي المتكرّرة دوراً مؤثراً في الحد من الاعتداءات أولاً، كما أنه استثار السلطات البريطانية في الخليج للتدخل لدى حاكم أبوظبي، وصولاً إلى عام 1893 الذي شهد انتهاء العمليات الحربية بين المشيختين.
تتحكّم اليوم الإمارات التي تحتكر إمارة أبوظبي تحديد مسارات السياسة الخارجية فيها في صناعة القرار، وريادة تحالف دول حصار قطر الذي تفرضه كل من الإمارات والسعودية والبحرين ومصر. وبحسب ما أوردته صحيفة واشنطن بوست الأميركية في 16 يوليو/ تموز الجاري، فإن إمارة أبو ظبي هي المسؤول الأول عن اختراق موقع وكالة الأنباء القطرية (قنا).
يماثل الموقف الأميركي المتأرجح في الأزمة الخليجية اليوم، إلى حد كبير، الموقف البريطاني إبّان انتدابه في الخليج. الصراعات التي عصفت بين المشيختين، كما أوردت أعلاه، قابلتها
السلطات البريطانية بالحياد، معتبرة أنها معنيةٌ بضمان سلامة الملاحة في مياه الخليج (أو ساحل القراصنة كما كانت تسميه بعض الوثائق البريطانية)، وأن لا علاقة لها بأي نزاعاتٍ داخلية بين المشيخات المتناحرة في الخليج، ما دامت هذه الحروب برية. وبحسب ما يورده السجل موضوع المقالة، كان الشيوخ يخاطبون المقيم البريطاني قبل كل تحرك لطلب الإذن. وكانت ردود البريطانيين متسقة وواضحة، نحن لن نتدخل، ما خلا أن تخلّ أي مشيخةٍ بالتزاماتها حيال الاتفاقيات الموقعة معها.
في مقالةٍ لهما نشرت أخيراً، تحت عنوان: "الأزمة القطرية.. أسوأ الاحتمالات"، كتب جيمس جيفري وسايمون هندرسون: "ولو وقع مثل هذا الشجار الذي يبدو تافهاً في ظاهره، ويكاد ينّم عن قلة نضوج بين دولٍ متجاورة في أفريقيا أو جنوب شرق آسيا، لربما كانت عواقبه ضئيلة. ولكن الأمر مختلف في الخليج العربي".
ولئن كانت "قلة النضوج" في أزمة الخليج التي تظهر في بنود مطالبات دول الحصار غير القابلة للتفاوض أو التنفيذ، والدفع بأعلى سقوف الصراع منذ يومها الأول، قد تؤدي إلى عواقب وخيمة، فإنه يبدو أن درساً أكثر أهميةً في هذه الأزمة يمكن استخلاصه، ويجب التنبه له، وهو أن بعض دول الخليج العربي، وبعد رفع الوصاية الدولية عليها، قرّرت بعد سنواتٍ طوال من الاستقلال وبناء المؤسسات العودة إلى فضاء تلك المشيخات المتناحرة على ساحل القراصنة.
247D6FB3-1334-49DC-8945-0813470EFD9B
247D6FB3-1334-49DC-8945-0813470EFD9B
عادل مرزوق
عادل مرزوق