يبدو أننا نفكر لأجل أن نعيش، لا نعيش لأجل أن نفكر، وهي مقولة ماركسية تصلح مدخلا جيدًا لفهم السؤال الكبير: أين الخطأ؟ وأين تكمن بذرة العنف الديني، هل هي جدلية نازلة من السماء أم ديالكتيك صاعد من الأرض؟ اليمين المسيحي وقطاع مهم داخل الغرب والنخبة الأميركية تقرأ مدار ما حدث من عنف إسلامي يبدو أنه ينفجر في وجه الجميع مسببًا بأفكار منجذبة بقوة النص القرآني وما ينسلخ عنه، أما قطاع التابعين بإحسان من بعض المعلقين العرب لتلك القراءة فيرى أن سبب العنف كامن داخل تلافيف النص الحديثي البخاري ومسلم... إلخ، باعتبار أن التشكيك في رواية حديثية أخف الضررين، فيمكن الانبراء التشكيكي لحديث، أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا، ولكن كيف يمكن التواجه مع آيات وقاتلوا، وحتى إذا أثخنتموهم.. وشدوا الوثاق.. إلخ، إذن ليس أمامهم سوى التسليم بمنهج التأويل في القرآن لتلك الآيات، ومنهج التشكيك في السنّة، وهذه من مظاهر النفاق المعرفي عندما يتم تسييس مناهج التحليل خوفا من ردَّات الفعل.. لكن هل العنف فعلا يبدأ نصا أم واقعا؟
يبدو أننا في تلك القراءة نجدنا أمام رصد لوعاء من السببية محمّل بعدد من المداخل المهمة، هذا الوعاء لا يهمل النص أو الطقس أو السياق، لكن نجده يحدد لحظة البدء، ثم نقاط التتابع التي تختمر داخل إطار هذا الوعاء السببي، حيث تتحوّل الروابط والحقائق المحيّرة إلى علم، كما يقول ويل ديورانت، لا إلى قراءة مسيَّسة عجلى تحوّل وقائع العنف إلى زمن ممتد من التشهير السياسي بالمسلمين وبالنصوص الدينية، دون ممارسة سياسية شجاعة تجاه الواقع الشقي، الذي يتحمّل الجزء الأكبر وراء كتل النار التي تنفجر هنا وهناك.. لماذا العنف الديني؟ أم لماذا الحركات الدينية من الأصل؟
الحقيقة البديهية أن نشأة الحركة الدينية جاءت تبعًا لمقتضيات تغيّرات كبيرة مسّت العالم الإسلامي بعد هزيمة الإسلام مجسدًا في دولته العثمانية وسقوطها في الحرب العالمية الأولى، والعتو التغريبي الذي واكبه عتو ديني حركي منظم، ولم تكن نشأة الحركة نتيجة برتقالة نصية وقعت على حسن البنا في حدائق الإسماعيلية، أثناء تأمل عرفاني متنوّر، ولكنه جوع المواجهة جعله يبحث عن شجر البرتقال، وهكذا كلما اشتدت المواجهة قويت الحركة، ومع سايكس بيكو التفكيكية طبيعي أن يشتد أزر كل ما هو أممي تركيبي عربي، كالحركة القومية أو أُمّتي ـ إسلامي كالحركة الإسلامية في وجه كل ما هو انفصالي تفكيكي، وستأتي لحظة لا بد أن يمسك فيها المسيح بالسوط ليطرد الباعة من داخل المعبد.
للبحث عن العنف، يجب أن نيمّم شطر الواقع، قبل النص، فالوحي هو في الأصل جدل الوقائع الصاعدة، لا صخب الألواح النازلة، وعندما ندرك أن للحركة الدينية سببًا، سندرك أن الغلو يأتي في الأساس من كثافة عناصر هذا السبب في لحظة تاريخية خاصة، كما يقول طارق البشري، وعندما يغضب المسلمون فليس لأن هناك نصا يقودهم للغضب، بقدر ما يكون هناك نص غاضب يُستدعى عند الغضب، وفي القرون الوسطى استُدعي نص الكتاب المقدس "لا تَدَعْ سَاحِرَةً تَعِيشُ"، لأن الواقع كان يتطلّب حرقهن. والآن، وبحسب برتراند راسل، يمر الناس على هذا النص صامتين، وكما نعلم فهناك داخل انساق الأديان نصوص مبهجة ونصوص غاضبة.. إلخ. ومن يدّعي أن الله لا يكشف عن نفسه لمن ينتابه الغضب والحزن، فإنه يحلم، كما يقول اسبينوزا، لأن النص نزل منجما في وقائع محيّرة ووقائع غاضبة، وهذا لا يعني غلق الباب أمام تفحّص النصوص الغاضبة، لكن الأهم هو السماح للواقع المبهج باستدعاء النصوص المبهجة للتمدد وإخماد جذوة النص المتحدي. التجديد الحقيقي يجب أن يتوقف أمام الواقع الغاضب بحسبانه مصدرا لاستدعاء النص الغاضب، وأن يتوقف الباعة عن دخول المعبد حتى لا يضطر المسيح لحمل السوط ثانية.
وإذا كانت الحركة الدينية المدنية شقت طريقها للسياسة والعمل الديمقراطي، بفعل ثورة الربيع العربي، فإن داعش دشنت توحّشها مع الثورة المضادة تجاه الربيع. والملاحظ أن تمدد الحركات الدينية السلمية، يهبط من موجات العنف، فلم يكن العنف موقفًا فكريًا أو سياسيًا، كما يظن البعض، بقدر ما كان استجابة لحالة الضغط الشديد الذي تعرض له الربيع العربي. فالعنف ليس فكرة، ولكنه موقف، لذا أصبح الخروج من تلك الحالة، يؤدي إلى الخروج من دائرة العنف. كما أن الخروج من حالة الاعتداء على الحضارة الإسلامية، سيؤدي إلى تراجع التشدد، وعمليات الدفاع عن النفس، لصالح عملية البناء والنهوض، بحسب ما يقول رفيق حبيب. وحتى من هم خارج السياق العربي الشقي، من ولد وعاش داخل أنظمة تعليمية رغيدة وعلمانية، نجد أن الكثير من هذا الشباب في لحظة تاريخية يقرر الانفصال أو الاغتراب عن الواقع السعيد (طبعا ربما يكون واقع تهميش) الغربي ويلتحم بالوعي الشقي الذي ينتج تلك الأفكار، وهنا تلعب سياقات العولمة ومفاهيم السيادة والاتصال كأدوات حاملة لهذا الواقع المستعار، ويبدو أنه يأتي بتلك النتائج الكارثية. طبعا هذا لا يعني أن الأمر مزدوج في حال إذا لم تكن الثقافة المحلية الغربية غير مشجعة على الاندماج.
حدثني الصحافي السوداني فوزي بشرى عن مفردة اشتقّها، اسمها "الاستعناف" من العنف، أو حض المسالم وإلجائه للعنف قصرا، أو "إفسال العنف" وزرعه في الأرض المسالمة؛ الاستعناف هو مقولة تعبّر عن صناعة العنف، وهو ما نجده مجسّدا في فيلم "الإرهاب والكباب" لعلّه الأهم في تاريخ السينما المصرية للمؤلف وحيد حامد، ونجده يطرح فكرتين، الأولى: أن الإرهابي قد يكون شخصا عاديا، تدفعه الظروف والسياق دفعا في لحظة ما لحمل البندقية، كالموظف الذي ذهب لمجمع التحرير لنقل أبنائه من مدرسة لمدرسة ثانية، فتحول إلى إرهابي يحتجز الرهائن ويشاركه جمع من الإرهابيين من المعنّفين المحبطين. الفكرة الثانية: وهي أن العنف لا يتمدد إلا عبر حاضنة اجتماعية.. تضامنت مع ممارسي العنف لا سيما عندما رفعوا شعار "الكباب.. الكباب.. لنخلي عشيتكم هباب" حتى يطعموا الرهائن.. أي عندما مسوا مطالبهم الحياتية. الأخطر أن تلك الحاضنة هي التي أذابت جموع "الإرهابيين" بداخلهم.. وقد مروا من أمام السلطة وهم خارجون من المجمع.. دون أن يعرفهم أحد.. وعندما سأل الصحافي المواطن الإرهابي المحتمل عادل إمام.. "شفت الإرهابي المعتوه؟.. قال: آه، هو لا تخين وﻻ رفيع ولا طويل ولا قصير.. هو شبهنا كده".. وقد كان عبد الباسط الساروت، عازف الغيتار السوري الذي كان يغني للحراك السلمي في الثورة السورية.. الآن أعلن ترك الغيتار.. وحمل سكين داعش.. ليقتل بعد أن كان يغني. هل النص هو الذي دعاه لرمي الغيتار وحمل الرشاش؟
العنف يبدأ واقعا، وينتهي نصا، ثم تأويلا، وليس العكس، فتدليك النصوص ورشها بالمعطرات كالإسلام الحلو والسمح، والمشرق، لن يفيد والتحديات ستزيد، وأثرها مؤقت، طالما الأرض تنضح بالخراب والعسف.. لكن زرع الأرض بالجنان المتنوعة.. يعجل بطيب الثمر.. بمعنى أوضح: الواقع هو الذي يضيء النص، وبقدر النور الساقط من السراج بقدر الضوء المنعكس من القمر، وواقعنا سراجه شموع ذابلة في عصر المفاعلات النووية.. فلا بد أن يكون النتاج تلك الأفكار البائسة المتوحشة. وعندما تكثر جوارح الطيور في سماء وطن فهي علامة على أن جيف القمع والعسف تتمدد على أرضه.
(مصر)
يبدو أننا في تلك القراءة نجدنا أمام رصد لوعاء من السببية محمّل بعدد من المداخل المهمة، هذا الوعاء لا يهمل النص أو الطقس أو السياق، لكن نجده يحدد لحظة البدء، ثم نقاط التتابع التي تختمر داخل إطار هذا الوعاء السببي، حيث تتحوّل الروابط والحقائق المحيّرة إلى علم، كما يقول ويل ديورانت، لا إلى قراءة مسيَّسة عجلى تحوّل وقائع العنف إلى زمن ممتد من التشهير السياسي بالمسلمين وبالنصوص الدينية، دون ممارسة سياسية شجاعة تجاه الواقع الشقي، الذي يتحمّل الجزء الأكبر وراء كتل النار التي تنفجر هنا وهناك.. لماذا العنف الديني؟ أم لماذا الحركات الدينية من الأصل؟
الحقيقة البديهية أن نشأة الحركة الدينية جاءت تبعًا لمقتضيات تغيّرات كبيرة مسّت العالم الإسلامي بعد هزيمة الإسلام مجسدًا في دولته العثمانية وسقوطها في الحرب العالمية الأولى، والعتو التغريبي الذي واكبه عتو ديني حركي منظم، ولم تكن نشأة الحركة نتيجة برتقالة نصية وقعت على حسن البنا في حدائق الإسماعيلية، أثناء تأمل عرفاني متنوّر، ولكنه جوع المواجهة جعله يبحث عن شجر البرتقال، وهكذا كلما اشتدت المواجهة قويت الحركة، ومع سايكس بيكو التفكيكية طبيعي أن يشتد أزر كل ما هو أممي تركيبي عربي، كالحركة القومية أو أُمّتي ـ إسلامي كالحركة الإسلامية في وجه كل ما هو انفصالي تفكيكي، وستأتي لحظة لا بد أن يمسك فيها المسيح بالسوط ليطرد الباعة من داخل المعبد.
للبحث عن العنف، يجب أن نيمّم شطر الواقع، قبل النص، فالوحي هو في الأصل جدل الوقائع الصاعدة، لا صخب الألواح النازلة، وعندما ندرك أن للحركة الدينية سببًا، سندرك أن الغلو يأتي في الأساس من كثافة عناصر هذا السبب في لحظة تاريخية خاصة، كما يقول طارق البشري، وعندما يغضب المسلمون فليس لأن هناك نصا يقودهم للغضب، بقدر ما يكون هناك نص غاضب يُستدعى عند الغضب، وفي القرون الوسطى استُدعي نص الكتاب المقدس "لا تَدَعْ سَاحِرَةً تَعِيشُ"، لأن الواقع كان يتطلّب حرقهن. والآن، وبحسب برتراند راسل، يمر الناس على هذا النص صامتين، وكما نعلم فهناك داخل انساق الأديان نصوص مبهجة ونصوص غاضبة.. إلخ. ومن يدّعي أن الله لا يكشف عن نفسه لمن ينتابه الغضب والحزن، فإنه يحلم، كما يقول اسبينوزا، لأن النص نزل منجما في وقائع محيّرة ووقائع غاضبة، وهذا لا يعني غلق الباب أمام تفحّص النصوص الغاضبة، لكن الأهم هو السماح للواقع المبهج باستدعاء النصوص المبهجة للتمدد وإخماد جذوة النص المتحدي. التجديد الحقيقي يجب أن يتوقف أمام الواقع الغاضب بحسبانه مصدرا لاستدعاء النص الغاضب، وأن يتوقف الباعة عن دخول المعبد حتى لا يضطر المسيح لحمل السوط ثانية.
وإذا كانت الحركة الدينية المدنية شقت طريقها للسياسة والعمل الديمقراطي، بفعل ثورة الربيع العربي، فإن داعش دشنت توحّشها مع الثورة المضادة تجاه الربيع. والملاحظ أن تمدد الحركات الدينية السلمية، يهبط من موجات العنف، فلم يكن العنف موقفًا فكريًا أو سياسيًا، كما يظن البعض، بقدر ما كان استجابة لحالة الضغط الشديد الذي تعرض له الربيع العربي. فالعنف ليس فكرة، ولكنه موقف، لذا أصبح الخروج من تلك الحالة، يؤدي إلى الخروج من دائرة العنف. كما أن الخروج من حالة الاعتداء على الحضارة الإسلامية، سيؤدي إلى تراجع التشدد، وعمليات الدفاع عن النفس، لصالح عملية البناء والنهوض، بحسب ما يقول رفيق حبيب. وحتى من هم خارج السياق العربي الشقي، من ولد وعاش داخل أنظمة تعليمية رغيدة وعلمانية، نجد أن الكثير من هذا الشباب في لحظة تاريخية يقرر الانفصال أو الاغتراب عن الواقع السعيد (طبعا ربما يكون واقع تهميش) الغربي ويلتحم بالوعي الشقي الذي ينتج تلك الأفكار، وهنا تلعب سياقات العولمة ومفاهيم السيادة والاتصال كأدوات حاملة لهذا الواقع المستعار، ويبدو أنه يأتي بتلك النتائج الكارثية. طبعا هذا لا يعني أن الأمر مزدوج في حال إذا لم تكن الثقافة المحلية الغربية غير مشجعة على الاندماج.
حدثني الصحافي السوداني فوزي بشرى عن مفردة اشتقّها، اسمها "الاستعناف" من العنف، أو حض المسالم وإلجائه للعنف قصرا، أو "إفسال العنف" وزرعه في الأرض المسالمة؛ الاستعناف هو مقولة تعبّر عن صناعة العنف، وهو ما نجده مجسّدا في فيلم "الإرهاب والكباب" لعلّه الأهم في تاريخ السينما المصرية للمؤلف وحيد حامد، ونجده يطرح فكرتين، الأولى: أن الإرهابي قد يكون شخصا عاديا، تدفعه الظروف والسياق دفعا في لحظة ما لحمل البندقية، كالموظف الذي ذهب لمجمع التحرير لنقل أبنائه من مدرسة لمدرسة ثانية، فتحول إلى إرهابي يحتجز الرهائن ويشاركه جمع من الإرهابيين من المعنّفين المحبطين. الفكرة الثانية: وهي أن العنف لا يتمدد إلا عبر حاضنة اجتماعية.. تضامنت مع ممارسي العنف لا سيما عندما رفعوا شعار "الكباب.. الكباب.. لنخلي عشيتكم هباب" حتى يطعموا الرهائن.. أي عندما مسوا مطالبهم الحياتية. الأخطر أن تلك الحاضنة هي التي أذابت جموع "الإرهابيين" بداخلهم.. وقد مروا من أمام السلطة وهم خارجون من المجمع.. دون أن يعرفهم أحد.. وعندما سأل الصحافي المواطن الإرهابي المحتمل عادل إمام.. "شفت الإرهابي المعتوه؟.. قال: آه، هو لا تخين وﻻ رفيع ولا طويل ولا قصير.. هو شبهنا كده".. وقد كان عبد الباسط الساروت، عازف الغيتار السوري الذي كان يغني للحراك السلمي في الثورة السورية.. الآن أعلن ترك الغيتار.. وحمل سكين داعش.. ليقتل بعد أن كان يغني. هل النص هو الذي دعاه لرمي الغيتار وحمل الرشاش؟
العنف يبدأ واقعا، وينتهي نصا، ثم تأويلا، وليس العكس، فتدليك النصوص ورشها بالمعطرات كالإسلام الحلو والسمح، والمشرق، لن يفيد والتحديات ستزيد، وأثرها مؤقت، طالما الأرض تنضح بالخراب والعسف.. لكن زرع الأرض بالجنان المتنوعة.. يعجل بطيب الثمر.. بمعنى أوضح: الواقع هو الذي يضيء النص، وبقدر النور الساقط من السراج بقدر الضوء المنعكس من القمر، وواقعنا سراجه شموع ذابلة في عصر المفاعلات النووية.. فلا بد أن يكون النتاج تلك الأفكار البائسة المتوحشة. وعندما تكثر جوارح الطيور في سماء وطن فهي علامة على أن جيف القمع والعسف تتمدد على أرضه.
(مصر)