العفة لم تكن يوماً في النقاب

09 يناير 2020
+ الخط -
تخيل أنك تضع قطعة قماش قاتمة على مجرى تنفسك طوال الوقت! تخيل أنك تخفي هويتك وكيانك وملامحك التي تشكل شخصيتك وتفاعلاتك وكاريزميتك، لمجرد أنك تحاول إرضاء رجل دين بليد يرى في إخفاء وجهك البريء عفة، وفي دفن كيانك فضيلة وتقربا للإله!

تخيل أن هذا الحديث العبثي لا يزال رائجاً وقوياً في أغلب البلاد، وعند مئات ملايين البسطاء العرب، في زمن الذكاء الرقمي، بمبرر العفة والشرف والطهارة والالتزام!

العفة لم تكن يوماً في النقاب، ولا أدري من أين أتى هذا الربط السخيف، كما أن ملامح الوجه ليست عورة، بل عنوان هوية، وأساس شخصية ومحور كيان، وشرط اندماج، وعامل تأثير في كل المجتمع والناس.


نسمع عن ملايين الفتيات المحجبات في كل البلاد العربية وفي خارجها، يعشن حياتهن بهدوء وسلام، بشرف وثقة، ولا يتعرض لهن أحد، يخجل أغلب الرجال من اعتراضهن أو التحرش بهن، بل على العكس دائماً، يحاولون إظهار الرقي والتهذيب، وكذلك اللطف والتفهم والإجلال. العفة ليست في النقاب، فجداتنا الأوليات لم يعرفن هذه الرقعة البغيضة، ولم يتعرض لهن أحد، وكن أساس العفة والطهر، وكن رمز الحكمة والأمان.

الكائنات الشاذة لا تميز بين منتقبة ومتحجبة، فقد يثير غريزتها حذاء منتقبة، أو بقايا لعابها السائل على الرصيف من فعل قرف المتحرشين. أثبت الواقع أن آلاف المنحرفات اللائي يختبئن خلف النقاب، يمارسن الخداع والشذوذ والاحتيال والقبح، ولا يعرف أحد لهن طريقا.. فيما المحجبات يخشين من نسمة الهواء البغيضة، يحرصن على كل همسة وحركة، وعلى كل التفاتة وإشارة. يظهرن دائماً بوضوح وثقة، وبعفة واتزان، وبكبرياء قل له نظير. هذا علاوة على أن في النقاب كثيرا من الدمار للصحة والكيان، وفائضا من العلات والقلق والغموض لمجتمع كامل على المدى المنظور والبعيد.

يجلب كذلك النقاب، في أغلب الأحايين، أمراض الصدر، ضعف النظر، التهاب الرئة، ويراكم الغبار والبكتيريا في مجرى التنفس بكل قسوة، كما يجبر الفتاة المسكينة على استنشاق زفيرها، ومكابدة ثاني أكسيد كربونها بكل علاته ومصائبه وكوارثه.

لا نعلم فعلاً ما حجة المتشددين في فرض النقاب، وهو لم يأت في قرآن ولا سيرة، ولم نعرف عنه نصاً ملزماً في دين أو شريعة، أو عرف وقانون أو حتى مجاز. يلتف المتشدد الرجعي دائماً حول النصوص في سبيل فرض هذا العبث الجبان وشرعنته، فقط بغية إرضاء العربي البليد القابع في مخيلته، المتأثر بسلفه الباغي منذ آلاف السنين والذي لم يرف له جفن وهو يدس أنثاه اللطيفة في تراب صحرائه المشتعلة، منهياً رحلتها وكآبتها وحقها الفطري في الحياة، بين مجتمع يرى في كيانها المغلوب نقصاً وعلة وصغارا.

ما الذي جلبه لنا النقاب إذن سوى التشدد والانطواء، والشذوذ والكوارث، وكل الانحراف المختبئ خلف ملايين الأقنعة. نحن قطعاً جيل مظلوم، ينتزع لقمة عيشه في زمن اللصوص، ويبحث عن شريكة حياته بين أكوام المقنعات.

أعرف عشرات الشبان الذين في نيتهم اختيار شريك متعلم أو مميز، أو حتى شريك متواضع الميزات والجمال، يلبي أدنى شروط الاقتناع والأمان، لكنهم يصطدمون بآلاف الإناث المقنعات، ثم لا يجدون طريقة سليمة للنفاذ عميقاً من هذا الجدار.

كيف سيختارون في وضع كهذا، وهل سيلاحقون كل فتاة إلى بيت أهلها، ويقطعون كل العناء للارتباط بمقنعة قد لا تناسبهم ملامحها أو سمات شخصيتها، أو أبسط تفاصيلها، ولو كانت حتى أميرة الجميلات، ما دامت لا تلامس سمات الفتاة المفضلة لقلب الشاب المغلوب وشغافه ولمعة الحب في عينيه!

يفر آلاف الشبان فعلاً من الارتباط، لمجرد أن من اهتموا لهن مقنعات، في زمن لا يملك فيه الشاب ترف اللهث خلف سراب مقنع، أو حتى مقاومة تبعات الوقوع في فخ مجتمع شروطه القاسية للارتباط وفحص الشريك ومعرفة ملامحه في أبسط الأحوال لا تنتهي عند حد.

نحن نعاني من مشكلة حقيقية وكارثية كشبان في مجتمعات محافظة ومنغلقة. خياراتنا محدودة، ولا نمتلك ترف اختيار شريكات حيواتنا، فالفصل الحاصل بيننا، والقيود البغيضة، والتشدد القاسي جداً حد إجبار إناثنا على ارتداء الأقنعة وتحريضهن على الهروب من كل شراكة واحتكاك، أو حتى ظهور فعلي إلى جانب الذكر الإنسان، كل هذه الأسباب، قيدتنا كشبان ومنعتنا فعلياً، أو ضيقت خياراتنا على الأقل في اختيار شريك مناسب، يخضع لكل معايير القلب والعقل والشعور.

خياراتنا أصبحت عبارة عن ضربة حظ، تعتمد على تقييم بدائي، يتشكل كنتيجة طبيعية لشح المعطيات عن الشريك، أو يعتمد غالباً على اختيار الأهل، وهذا هو الفخ الكبير الذي يجلب كل الكوارث دفعة واحدة وبلا انتهاء.
دلالات
96FAEB94-09D9-40DA-9572-8F716632E36B
محمد الصوفي

شاب يمني طموح.. يعشق الأدب ويكتبه منذ نعومة أظافره. يعيش في وطن طحنته الحرب ومزقت نسيجه، ويبحث عن نافذة يتنفس منها للعالم يحكي منها عن عذابات شعب مسالم خنقوه يوم قرر أن يعيش بحرية.