العرب والتحالف مع أميركا

12 ابريل 2015

قوات احتلال أميركية وقوات عراقية في بغداد (17 أكتوبر/2009/Getty)

+ الخط -

ما مغزى العلاقة التحالفية بين أنظمة عربية والولايات المتحدة؟ سؤال قد يبدو غير وجيه، بالنظر للعلاقات التقليدية بين أنظمة عربية وأميركا، وللتصور الأمني لهذه الأنظمة، القائم على الاعتماد الكلي، أو شبه الكلي، على المظلة الأميركية. لكن المتأمل للواقع العربي لا يسعه إلا أن يتساءل عن هذه العلاقة التحالفية و"يُمَشْكِلها".

عموماً، تعني هذه العلاقة للأنظمة العربية المعنية أمنها (أي بقاء العائلة الحاكمة، أو الأقلية الاستراتيجية في الحكم)، وليس بالضرورة الأمن القومي (بمعناه السائد في الديمقراطيات الليبرالية الغربية). ومن ثم، المظلة العسكرية الأميركية أهم بكثير من بناء قدرات عسكرية وطنية مستقلة، قادرة على درء العدوان، وصيانة الأمن القومي. وربما تفضيل المظلة الأميركية دلالة، أيضاً، على عدم الثقة في الجهاز العسكري والأمني المحلي! أما بالنسبة لأميركا، فهذه العلاقة تعني ربط المنطقة بمجملها بالمصالح الأميركية، وجعلها جزءاً من دائرة الأمن القومي الأميركي، بل وإبقاء دول المنطقة في حاجة ماسة ودائمة للمظلة الأميركية، أو بالأحرى إعطاء الانطباع بأنها بحاجة لذلك. وهناك نرجسية سياسية عربية: تتباهى أنظمة عربية بعلاقاتها التحالفية مع أميركا، فيما تتباهى أخرى بشراكتها الاستراتيجية مع أميركا.

بالطبع، لا يمكن لأي بلد أن يستغني عن علاقة (متينة) مع القوة الأولى في العالم، خصوصاً في ظل بيئة أمنية قلقة. إذن، المشكلة ليست في العلاقة، وإنما في طبيعتها. وهذا ما جعل العرب يتخبطون في تناقضات بنيوية، وتضارب بين "الأمن القطري" و"الأمن القومي" (العربي)، فهم يقولون بالتحالف مع أميركا، لكن استراتيجية الأخيرة تتعارض وبعض، إن لم نقل جل، مصالحهم، ليس كعرب فقط، بل كدولٍ قطرية وأنظمة. ومن ثم يمكن القول إن العرب ارتكبوا خطيئتين استراتيجيتين في صياغة علاقاتهم مع أميركا.

أولها الاعتقاد أن العلاقة التحالفية معها جامعة مانعة، أي أنها تقوم على أسس أمنية وعسكرية. وبالتالي، لا خوف على الجوانب السياسية (ولا هم بحاجة إلى تنويع تحالفاتهم). بيد أن العلاقة التحالفية لا تعني، بالضرورة، التوافق السياسي حول القضايا الإقليمية (الشيء نفسه يقال عن التحالف الاستراتيجي بين الدول الغربية الذي لا يعني، إطلاقاً، غياب التنافس بينها سياسياً واقتصادياً)، وهذا ما يفسر خيبة دول عربية مما يحدث في العراق الآن. فهي دعمت وسهلت غزوه واحتلاله من الولايات المتحدة، مشرعنة المخطط الأميركي، موهمة نفسها بأنها تتقاسم وأميركا التشخيص نفسه للأزمة العراقية والحل نفسه. لكن لأميركا مشروعاً آخر، تحكمه اعتبارات مصالحها القومية (وأخطائها الاستراتيجية أيضاً). هكذا ساعدت دول عربية، تقول بضرورة الوقوف في وجه إيران، أميركا على وضع العراق تحت النفوذ الإيراني. وحال دول الخليج، تحديداً، كحال المستجير من الرمضاء بالنار. فهي ساهمت في إسقاط عراق صدام حسين، في الوقت الذي كان فيه العراق في أضعف وضع له (منذ خطيئته الكبرى – غزو الكويت)، مساهمة، بالتالي، في إلقائه في أحضان النفوذ الإيراني، في وقت تجد فيه إيران نفسها، في وضع أحسن مما كانت عليه في السابق. وعليه، عليها ألا تلوم إلا نفسها، وأن تتمعن جيداً في هذا المثل العربي القديم: يداك أوكتا وفوك نفخ.

لكن العبرة لم تُستخلص لإعادة التفكير في طبيعة العلاقات مع الولايات المتحدة، ما دام معيار أمن الأنظمة الحاكمة مقدساً، وعلى حساب التفريط في أمن الدول (العربية). وها هي دول عربية، اليوم، في حالة استنفار سياسي قصوى، بسبب الاتفاق بين القوى الغربية وإيران حول ملفها النووي. بغضّ النظر عن صحة مواقفها من عدمها حيال النووي الإيراني، فإن الاستنتاج الأساسي من هذا الاتفاق أن الحليف الاستراتيجي لدول عربية لا يعير أهمية لرؤيتها بشأن القضايا الإقليمية. والواقع أن العملية تحصيل حاصل. فأميركا التي لا تقيم لحلفائها العرب مقاماً يذكر، في ما يخص الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني، كيف بها أن تفعل ذلك حيال صراعات أخرى في المنطقة، أقل حدة منه. وخطأ العرب، أو جزء منهم على الأقل، هو الاعتقاد بوجود توافق أميركي - عربي بشأن إيران. هكذا تجاهل العرب قاعدة سياسية في غاية الأهمية: المصالح ليست جامدة، بل تطورية، وتحددها السياقات.

ثانيها التصور المطلق، في البداية، لمفعول المظلة الأميركية، بمعنى أن العلاقة التحالفية مع الولايات المتحدة صالحة لكل زمان ومكان. لكن الدول العربية فهمت، متأخرة، مع مرور الزمن أنها ليست مطلقة. فهي لا تحمي أي طرف عربي، مهما كانت تحالفاته مع أميركا، من عدوان إسرائيلي. ومع مرور الوقت، استوعبت الدول العربية المعنية الأمر، وتقبلت هذا الواقع مكرهة: العلاقة التحالفية مع الولايات المتحدة مصممة، أصلاً، لحمايتها من أشقائها العرب (!) أو من قوى إقليمية (إيران تحديداً. ولكن، بحسب تطور السياقات الإقليمية وطبيعة الأزمات). وهنا مكمن انسداد الأفق الاستراتيجي العربي. فكل الدول العربية التي منحتها أميركا "صفة الحليف الأساسي للولايات المتحدة خارج الناتو" تعي أن هذا لا يقيها من كل الاعتداءات، بمعنى أن دولاً عربية أسقطت في الواقع إسرائيل من مصادر التهديد لأمنها، وأن مدركاتها وشواغلها الأمنية مختزلة في العلاقة مع إيران (بالنسبة لبعضها) وفي العلاقات العربية البينية (بالنسبة لِجُلِّها). لكن العلاقة مع إيران وسقف التحمل (الغربي، وليس العربي) تحديداً تحكمهما اعتبارات خارجية، ليس للدول العربية عليها من سلطان، بل هي مرهونة بتوجهات القوى الكبرى وخياراتها واختلاف السياقات.

وتمخّض عن الخطيئتين الاستراتيجيتين وقصور الرؤية واختزال الأمن القومي في أمن الأنظمة خلل بنيوي في المنظومة الأمنية العربية بمجملها، من أبرز تجلياته الانكشاف الأمني العربي. فالدول العربية ضحت بالأمن القومي العربي، خدمة لأمنها الوطني، لكنها لم تفلح في صيانته، فخسرت على الصعيدين. والمشكلة أن بعض الدول (العربية) المرشحة للعب الأدوار الأولى في بناء منظومة أمنية عربية (مستقلة) هي، أصلاً، مرتبطة استراتيجياً، بشكل أو بآخر، بقوى مناهضة لفكرة الأمن القومي (العربي)، فضلاً عن أن تلك الدول العربية لا تؤمن، في الواقع، بفكرة الأمن القومي، وإنما توظفها لا غير.