العربي محاولاً الفهم
أظن عن نفسي أنها أبعد ما يمكن عن التشاؤم. لكن، ما يحدث في عالمنا العربي، اليوم، يجعل كل كاتب أو مدون ومتابع عربي يُخرج المعرّي أو كافكا أو سيوران الراقد في داخله! حسناً، على مستوى نظري، سنردد عبارات التفاؤل، ونترنم دوماً بأبيات أبو ماضي، لكن، على مستوى الأسئلة الصادقة، وأحدنا قد يقف ليسأل: هل من أمل أن يرى حال البلدان العربية صالحا في فترة حياته؟
هذه المصائب، التي تجعل جديد المواطن العربي، غير المحظوظ دوما، يتمثل في أن يصحو في صباحه، ليكون أول ما يتابعه من أخبار: أين وصل داعش، بعد إسقاط الموصل؟ أو ماذا قرر الحوثيون بعد خطف صنعاء؟ هذه نوعية أخبار تنحدر دوماً في مستواها، وهي امتداد أخبار سابقة، تتعلق بتمدد نفوذ الكيانات الخارجة عن الدولة، مثل ميليشيات العراق الطائفية، أو حزب الله في لبنان. وتصاغر الدولة العربية الحديثة ليس تامّاً، فهي تتعاظم، مثلاً، أمام تعطيل العمليات السياسية وحقوق المواطن، وهذه أخبار من طرف الدول تماثل منزلة سابقاتها.
فتحت التقنية أعين الناس على واسع، وقربتهم من الحكايات وتناقضاتها وخباياها. سابقاً، كان الناس يتلقون الحكايات المنمّطة عبر الثقافة الشفهية، والمكتوبة التي تقلد الشفهية وترضيها، ثم يغلفونها بارتياح بختم الفهم. لكن، أصبحت الصورة، اليوم، تزاحم الواقع والوعي به، وفتحت معها باب "جحيم الفهم". وأحدنا عاش عقوداً من الإقصاء والتهميش والتجهيل والتغييب الممنهج، ونجده يسأل اليوم متعجباً، لماذا لا يفهم تمدد داعش، أو تقدم الحوثيين أو...! حسن، فلتفهم ما قبلها إذن.
جحيم الفهم يمثل عقبة صعبة، لكنها عقبةٌ لا تستطيع المرور لما بعدها إلا عبرها. مساءلة الفهم والقناعات المستقرة طريق للمضي إلى ما بعدها. الأفكار الكبرى ولدت عبر محطات من جحيم الفهم مرت بها الشعوب، ولولا الأزمة والمشكلة، لما عدل الإنسان قناعة من قناعاته. خطاب "الإرجاء" في تراثنا، الذي مثّل فسحة للناس، ولد بعد دمار أحلّته فتنة "ابن الأشعث"، وشيوع ثقافة تكفر الناس وتذبحهم بناء على آرائهم واعتقاداتهم. والخطابات الفكرية المعروفة اليوم مثل "الشك" أو "التفكيك" قدمتا إلى العقول بعد إلقاء قنبلتي ناغازاكي وهيروشيما النوويتين، وإحباط المثقفين نتيجة فقدان الإنسانية أمناً ورخاءً طالما وُعِدتا به.
الأميركيون كذلك، عصب ثقافتهم وفلسفتهم اليوم هو الفلسفة "البراغماتية". قُدح زناد هذه الفلسفة، بعد أن عاشوا في فجوة خمسين عاماً، يتساءلون ويتأملون فداحة حربهم الأهلية التي لم تستثن حتى النساء والأطفال، ففي أربع سنوات فقط (1861-1865)، خسرت أميركا ما يزيد على 620 ألف إنسان، وهو بمقياس السكان، اليوم، يماثل مقتل ما يزيد على ستة ملايين. تساءلوا: لماذا حدث ما حدث؟ وهل كان الأمر يستحق كل هذا الثمن؟ بذا جددوا إيمانهم عبر قيم أفضل، فأصبحت النتائج هي المعيار، والأفكار محكومةً، بعد أن كانت حاكمة.
ورواد ما بعد الحداثة عادة ما ينظرون إلى جانب آخر من الحكايات. هم قد لا يقدمون نموذجاً جيداً للفهم، لكنهم جيدون في إدراك "عدم الفهم" أو قصوره. مثل جان بودريار يوم كتب أن "حرب الخليج لم تقع"، مفرقاً بين الواقع والصورة. كذا فيلسوف اليوم، سلافوي جيجيك، حين تحدّى وعينا وقناعاتنا بقوله إن الصراع في سورية زائف! وفوكو سبق إلى ذلك (وهو عادة يسبق)، في كتابه "هذا ليس غليوناً"، الذي اقتبس فيه عنوان لوحة رينيه ماجريت، وكتب فيه عن خيانة الصورة. الفنان كان يرى في موضوع لوحته أن الصورة، مهما بلغت دقتها، لن تنقل الواقع كما هو. وسابقاً ذكر العلماء في تراثنا أن تطابق "ما في الأذهان" مع "ما في الأعيان" لا يكون تاماً.
إن ألعاب الصورة امتداد لألعاب سابقة طوّرت الوعي، أو خدعته، مثل ألعاب اللغة. ومن حلول ذلك الاقتراب، بشكل تجريبي أكبر من المواضيع، واستنطاقها بطريقة، أو أخرى، لتعبر عن نفسها بشكل أوضح، لأن أدوات الفهم الانطباعية والعلمية السابقة تصبح نمطية وقاصرة، وهنا، يكون جحيم الفهم والشك مفيداً، حين يحرض على فهم أكبر. أيضاً، الخلل في الفهم يكون قادماً من أمر آخر، أخطر من عمليات التجهيل والاستبعاد الممنهجة، ومن قصور الأدوات المستخدمة للفهم. هذا الأمر هو الخلل في البناء الاجتماعي وطبيعة علاقاته وقصوره الذاتي، فالنظر الاجتماعي وليد أكيد لهذا الأمر.
يتأخر الفهم، لأنه ابن بيئته التي غاب عنها الإصلاح. ويذكر أهل الاجتماع أن "علم الاجتماع السياسي" ولد حين تم التفريق بين الواقعين، الاجتماعي والسياسي، وأكدوا في البدايات، في القرن قبل الماضي، أن طبيعة البناء الاجتماعي مؤثرة وحاكمة على الوضع السياسي. من هنا، تأمل طريقة البناء الاجتماعي وطبيعة علاقاته تشكل الدليل على عطالة الوضع السياسي، ومن ثم عودة هذا الأخير للتأثير في البناء الاجتماعي بدوره.
حين يكون هناك فساد في الدور القيادي (النخبوي) داخل البناء الاجتماعي، وتسليمه الطوعي (أو المصلحي) بامتيازاته ودوره إلى المسار السلطوي، سنجد أننا أمام عطالة شاملة، بطل إفساد البناء الاجتماعي فيها، هو الافتقاد لنخب طبيعية، وحلول المصنوعة عوضاً عنها. النخب الطبيعية هي التي تصدر عن الشعب ومن داخله، وتمثل وظيفةً قياديةً، تحتاجها أي جماعة. وطبيعة علاقات التأثير والقوة والتنظيم داخل الجماعة هي التي تبرز هذه القيادة، التي تقوم على أساس خدمة تبادلية بينها وبين الجموع. الفهم عزيز، وتعطل قنواته بسبب بناء اجتماعي عاطل، أمر واضح.
يستحق العربي أن يصحو من نومه، ليتابع أخباراً تليق به، ولن يفعل ما لم "يصحُ في صحوه"، ويرفض بناءه الاجتماعي القائم. لا أسرار يكشفها هذا المقال، كل ما يحاول قوله، أن البناء الاجتماعي هو الوسط والقاع الطبيعي الذي يحكم ما عداه في النهاية، وحرمانه من علاقات سليمة، يُنتج عبرها نخبه وتوجهاته الطبيعية التي تثبّت قوته، يمثل جريمة وعمليات قسر ممنهجة. السكوت عنها، والتعطل الثقافي أمامها، جريمة أكبر.