العراق.. مفارقات وسيناريوهات مفخّخة

01 يناير 2020
+ الخط -
ألقى الرئيس العراقي، برهم صالح، حجرا في مياهٍ مضطربة أصلا، فاشتدّ اضطرابها، وتعاظم عصف الرياح المخيفة المحيطة بها والهابّة من الجهات الأربع. ولم يتأخر "وكلاء" إيران في إدراك أنهم معنيّون بالأمر أكثر من غيرهم، فانطلقوا في حملة هجوم شنيع على "كاكا برهم"، بعضه اتسم بالبذاءة وقلة الأدب، عندما دعا قائد مليشياوي من "عصائب الحق" في التلفزيون إلى البصق (!) على الرئيس، وهو ما يشكّل جريمة يعاقب عليها القانون، الغائب أصلا عن الحلبة السياسية العراقية منذ زمان، ومن بعضه أيضا وصم الرئيس صالح بالخيانة ومخالفة الدستور والمطالبة بمحاكمته وعزله، واتهامه بالضلوع في "مشروع إسرائيلي - أميركي لتدمير العراق"!
أصل الحملة أن أولئك "الوكلاء" كانوا مصرّين على ترشيح رئيس وزراء من "الكابينة" نفسها التي جاء منها معظم أفراد الطبقة السياسية التي حكمت البلاد منذ الاحتلال في العام 2003، وقد طالبوا الرئيس بإقرار مرشحهم، إذ، بحسبهم، لا حقّ دستورياً له برفضه، وهم يعرفون أن مجيء رئيسٍ من خارج "الكابينة" التي يتحصّنون فيها ربما يقضي على تسلّطهم، وربما يودي بأحلامهم المريضة. ولذلك هم على استعدادٍ ليقاتلوا من أجل الاحتفاظ بهذا الموقع وعدم التفريط به، وقد شرعوا بالفعل في حربهم هذه مع إعلان ترشيحهم "جنرالا" من المؤسّسة العسكرية، سرعان ما اعتبرته الانتفاضة "مرفوضا من الشعب"، عندها اشتدّت غضبتهم الشريرة، وزادوا في اختطاف الناشطين واغتيالهم وتهديدهم، واتباع شتّى الأساليب لوأد الانتفاضة أو حرفها على الأقل.
وإذ بدا أن إعادة الوضع إلى المربع الأول أمر دونه خرط القتاد، ظهرت علائم الانهيار على 
المنظومة السياسية الحاكمة، عبر تبادل الاتهامات والاتهامات المضادّة بين أطرافها، ومحاولة طرفٍ إلقاء مسؤولية تصاعد الأحداث على عاتق طرفٍ آخر، واقترن ذلك باستقالاتٍ من مواقع قيادية في أكثر من حزب، في مسعىً إلى القفز من السفينة التي توشك أن تبتلعها المياه.
ثوار ساحات التحرير، من ناحيتهم، قدّروا خطوة الرئيس صالح، لكنهم تمنّوا لو تولى بنفسه صلاحيات رئاسة الوزراء، وأعلن حل البرلمان، ودعا إلى انتخابات مبكّرة، وهذا ما يتيحه له الدستور. ولكن على أية حال ما كل ما يتمنّاه الثوار يدركونه دفعة واحدة، و"استعادة الوطن" لا تتمّ بين عشيةٍ وضحاها، هي مهمةٌ شاقّة ومكلفة، وقد نذروا أنفسهم لإنجازها، قدّموا مئات الشهداء وآلاف الجرحى، وهم يعرفون أنهم في أول الطريق، وما يتداوله "الوكلاء" من مزاعم متهافتة عن أن قدرة "الثوار" على مواصلة الانتفاضة تضعُف وتتلاشى، يدحضها تصاعد الحراك الشعبي، عبر خروج موجاتٍ جديدةٍ إلى الشوارع والساحات يوميا في هذه المدينة أو تلك، لتديم حيوية الانتفاضة وترسخ جذورها.
ماذا بعد هذا؟ اللافت أن المنظومة السياسية الحاكمة التي بدأت تتفكّك على وقع استمرار الحراك الشعبي وتصاعده حاولت، بعد خطوة الرئيس صالح، أن تلتقط أنفاسها، لتعيد توحيد صفوفها. ولكن هناك من يتوقّع أن تسهم المجابهة العسكرية بين الولايات المتحدة وإيران، والتي اتخذت من الأرض العراقية مسرحا لها في اشتداد الصراعات داخل المنظومة نفسها، خصوصا بعد أن هدّدت مليشيات تابعة برد قاس على أميركا، وطالبت بطرد الأميركيين من البلاد، فيما تميل أطراف أخرى إلى التهدئة، وإيجاد حالة توازن بين القوتين المهيمنتين، واللتين استباحتا معا الدم والتراب العراقيين على مدى الأعوام السالفة.
يبقى موقف طهران التي يشكل العراق مكمن الخطر بالنسبة لها، وخسارتها له تعني خسارتها الإقليم كله، لكنها لم تعد تملك الكثير مما تستطيع فعله، لنجدة "وكلائها"، فهي عمليا غارقةٌ في خضم مشكلات اقتصادية وسياسية تهدّد تركيبتها الحاكمة، وقد عادت حركة الاحتجاجات إلى شوارعها على الرغم من القمع الذي تسبب في مقتل وإصابة الآلاف. وفي ساحاتها الخلفية استجدت ظروفٌ وأحوالٌ أضعفت من قدرتها على التحكّم والسيطرة، وهي مضطرة إلى الانكفاء قليلا، تاركة لوكلائها التصرّف. يبقى أيضا موقف واشنطن التي تبدو مطمئنةً إلى قدرتها على استثمار ما يجري لصالح مخططاتها، وبينها وبين العراق اتفاقيةٌ أمنية تتيح لها التحكّم، والتدخل متى شاءت لحماية مصالحها، أكثر من ذلك تبدو مطمئنةً لولاء رجالها، ولإمكانية صد الخصوم وتحجيم دورهم. وحدها الانتفاضة تمتلك صفة "النجوم الخمس" في المعادلة العراقية الماثلة، على الرغم من مفارقات الحال وبروز سيناريوهات مفخخة، وقابلة للانفجار في أية لحظة، وثمّة فرص لمفاجآتٍ قد لا تخطر في البال، وما علينا سوى الانتظار، وهو انتظار مقلق في كل الأحوال.
583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"